الثائر المك القديل.. قصة بطولة وفارس لم ينصفه التاريخ

25
د. خالد مصطفى

د. خالد مصطفى

كاتب صحفي

• هناك من الرجال من قاوم كل صلف  المستعمرين وغرورهم، ودافعوا عن أرضهم وبلدهم بكل بسالة، وسطروا أروع القيم والمثل والأخلاق، وبالرغم من ذلك لم يفرد لهم وطنهم الذي دافعوا عنه مساحة ولو  صغيرة لتسجيل بطولاتهم، لتكون هدى تستنير به الأجيال. بل عاقبهم وطنهم بالتجهيل والنسيان. 

من هؤلاء الرجال المك القديل مك تقوى إحدى خشوم بيوت تقلي. فقد قاوم الاستعمار الإنجليزي المصري بكل بسالة، ورفض الانصياع له والاعتراف به، وتحدى السلطات الاستعمارية وثار ضدها وهزمها في عدة معارك، ولكن في نهاية المطاف  هزمه التفوق في  الأسلحة، ودفع حياته ثمناً لذلك، ليترك بذلك جذوة النضال قائمة تستلهم منها الأجيال الصمود والثورة ضد الظلم، وحب الحرية والخير والعيش بكرامة. 

كان القديل ضمن القوات التي هاجرت مع المهدية إلى أم درمان، فعندما جاء المهدي إلى قدير أرسل له المك جبوري الثاني (والد المك القديل) رسالة تأييد واعتراف، فردَّ إليه المهدي برساله بأنَّه متحرك إلى الأبيض، وعليه اللحاق به هناك، أعدَّ المك الجبوري الثاني جيشاً من (تقوى) وتحرك نحو الأبيض، واصطحب معه ابنيه القديل والتوم، وترك ابن عمه (الدوري) لينوب عنه في الملك في فترة غيابه، وصل المك الجبوري الثاني إلى الأبيض، فوجدها قد فتحت، وأن قوات المهدية اتجهت صوب أم درمان، فتحرك بقواته من الأبيض قاصداً أم درمان، فلما وصلها وجد أنَّ الخرطوم قد سقطت في يد المهدية، وأنَّ المهدي قد مات قبل ثلاثة أيام من وصوله، فقرر المك الجبوري المكوث في أم درمان، فمكث بها في (حي تقلي) في أم درمان لمدة ثمانية أعوام، ثمَّ قرر الخليفة عبد الله التعايشي القيام بحملة ضد الحبشة بقيادة حمدان أبوعنجة والزاكي طمل، فانضم المك الجبوري الثاني إلى الحملة برتبة (أمير راية). 

قتل المك الجبوري الثاني في هذه الحملة، وبعض قواته استقرت في النيل الأزرق، وبعضهم عاد بعد نهاية المهدية إلى تقلي. وكان من ضمن العائدين ابنا المك الجبوري الثاني (القديل والتوم)، فوجدا أنَّ ابن عمهما (إدريس كربوس) وبمساعدة أخيه إسماعيل قد اغتصب السلطة من الدوري خليفة والدهم، وذلك بمجرد سماعه بخبر وفاة المك جبوري الثاني.

غضب القديل لذلك، واستولى على السلطة بقوة السلاح من ابن عمه إدريس، وقتل إدريس وأخاه إسماعيل، ونصَّب نفسه مكاً لتقوي بقوة السلاح، ففرَّت عائلة كلٍّ من المك إدريس وأخيه إسماعيل إلى جبال تومالي، واستقروا في قريتي (تاندر) و(تريوة).

وبمجرد توليه السلطة، واصل القديل بالحماس الثوري المهدوي نفسه في مقاومة الحكم الإنجليزي المصري، فهو بالنسبة له الأتراك والإنجليز شيء واحد، كلّهم مستعمرون ومحتلون تجب مقاومتهم، ففي الوقت الذي استسلم فيه بقية مكوك تقلي بدهاء للحكم الإنجليزي المصرى، استمر المك القديل وحده في المقاومة، فرفض دفع الجزية للإنجليز، ورفض الاعتراف بهم، ورفض مدَّهم بالرجال لتجنيدهم في الجيش النظامي الجديد، بل ذهب أكثر من ذلك، بأن فرض ضريبة على القبائل المجاورة، وعلى القبائل الرعوية التي كانت تدخل تقوي في مواسم معيَّنة، وتحدى الإنجليز.

وعندما علم المفتش الإنجليزي بذلك، أرسل له رسائل عدة، يطالبه فيها بالاستسلام ودفع الجزية، وفي كلِّ مرة كان المك القديل يردُّ بالرفض وبعناد منقطع النظير.

بعد هذا الرفض المتكرر، قررت الحكومة توجيه ضربة عسكرية لتقوي، فأرسلت ثلاث حملات، اثنتين منها صدَّهما المك القديل وقواته، وتراجعت قوات الحكومة منهزمة، وفي المرة الثالثة في أكتوبر عام ١٩١٠م استخدمت الحكومة المدفعية الثقيلة، مما اضطر المك القديل لإصدار أوامر للسكان بمغادرة جبل تقوي وإخلائه تماماً، نسبة لكثافة النيران، وعدم توازن القوة (الذي لم يحسب له المك القديل حساباً منذ البداية).

وبعد أن عرف المك القديل أنَّ بعض قادة تقوي الذين كانوا معه قد تمردوا عليه وانضموا إلى جيش الحكومة، أيقن بأنَّ هؤلاء القادة سيخبرون الحكومة بمخابئ تقوي، وبالخطط العسكرية لديها، فتوجَّه المك إلى جبل الداير، واحتمى عند صديقه المك (أبوزايدة أودون) مك الضباب، فأخفاه المك أودون في قمة الجبل في مكان آمن، وكان يرسل له الطعام والشراب ليلاً، ويأمر الرعاة بمحو آثار الحاملين للطعام بواسطة بهائمهم، إلا أنَّ الحكومة بمكرها المعهود وعبر جواسيسها المنتشرين قد عرفت بأنَّ المك القديل يختبئ عند المك أودون في جبل الداير، فأرسلت قوة عسكرية لتتبعه، وقبضت القوة العسكرية على المك أودون، الذي رفض أن يدلي بمكان صديقه المك القديل، فهددت الحكومة بقصف الجبل، وعندما علم المك القديل بذلك بواسطة الذين يحملون له الطعام ليلاً، قرر الاستسلام حماية لصديقه المخلص المك أودون، فسلّم نفسه للحكومة في منطقة كرتالا في يوم 5 أبريل 1911 م، واقتيد مقيداً بالسلاسل وتمت محاكمته في الأبيض بتهمة قتل المك إدريس، وحوكم بالإعدام، واقتيد إلى كرايا فتمَّ إعدامه شنقاً حتى الموت في كرايا في يوم 11 أبريل 1911 م. وبذا انتهى فصل من فصول المقاومة في تقلي. وكتكريم شعبي  للمك القديل فقد أطلق اسم القديل على عدد كبير من الأطفال، ولا يزال الناس في تقلي والمناطق المجاورة لها في كردفان  يسمون القديل. 

وقد أيقظت ثورة المك الجبوري جذوة الثورة في نفوس شاعرات تقلي فأنشدت الشاعرة النصرة بت المك آدم أم دبالو في كرايا مشجعة ومناصرة وناصحة  قائلة:

يا القديل ود الجبوري جابو لي نباك 

النصراني ما تديهو قفاك 

البارود كان كمل أنا بجري بتلافاك 

فالمجد والخلود والرحمة والمغفرة للمك القديل والمك أودون فقد قدما دروساً في الصمود والأخلاق والتضحية ونكران الذات يجب أن تدرس في مناهج التربية الوطنية. 

ملحوظة:

 حي تقلي في أم درمان يقع في المنطقة التي فيها مستشفى أم درمان التعليمي الآن وحتى السوق الكبير.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *