

بقلم: د. كمال يوسف علي
• أتى تناول الموضوع في بحثٍ أكاديمي شاركتُ به في المؤتمر الدولي الرابع لكلية التربية الموسيقية بجامعة حلوان في مطلع أكتوبر من العام الماضي 2024، وقد كان العنوان مكتملاً «التواصل الموسيقي بين مصر والسودان وإمكانية الاستفادة منه في تصميم مناهج تدريس الموسيقى في البلدين» متخذاً من مادة (الصولفيج) أو القراءة الموسيقية محلاً لتصميم منهج التدريس؛ متناولاً احدى أغنيات الأفلام والاستفادة من لحنها في تصميم تمارين لتطوير مهارات القراءة الموسيقية لدارسي الموسيقى.


كنت قد قدمت الموضوع مكتفياً بشقه الأول «التواصل الموسيقي بين مصر والسودان» في ندوةٍ المنتدى المصري بتاريخ 13 يونيو الماضي، وأعدت تقديمه في 15 مارس الجاري 2025 ضمن الأنشطة الثقافية لحزب المحافظين بالقاهرة وبدعوةٍ من مبادرة النهوض بقوى مصر الناعمة. وقد تمثّل هذا التواصل في عدة أشكال؛ نعرض منها ما كان في نطاق قرنٍ من الزمان، بدايةً بمنتصف العقد الثالث للقرن العشرين، حيث بدأت رحلات المطربين السودانيين لتسجيل أغنياتهم في الاسطوانات في مصر في 1926 تقريباً، وهي الأغنيات التي صارت تُعرف بعد ذلك بأغاني الحقيبة والتي تعتبر البداية العملية للموسيقى السودانية الحديثة، والتي ظلت محفوظة في تلك الأسطوانات وتعرفت عليها الأجيال اللاحقة بعد تناولها من مطربي المراحل التي تلت ذلك.
أتى بعد ذلك إنشاء إذاعة (ركن السودان) في إذاعة القاهرة في عام 1954، حيث عُنيت تلك الإذاعة بالتبادل الثقافي بين البلدين، ومثّلت امتداداً لتجربة تسجيلات الحقيبة، حيث كان يتم تسجيل أغنيات كبار المطربين السودانيين من جيل الرواد في مصر مع فِرقٍ موسيقية مصرية، واستمرت الإذاعة حتى مطلع الثمانينات ثم تحوّل اسمها إلى إذاعة وادي النيل.
تمثّل الشكل الثالث لهذا التواصل في معلمي الموسيقى المصريين الذين كانوا يأتون إلى السودان للتدريس في مدارس البعثة التعليمية المصرية في الخرطوم وبعض المدن الأخرى، وهناك عدد من هؤلاء المدرسين كان قد تواصل مع الإذاعة السودانية وتعاون مع فرقتها الموسيقية، وأبرز هؤلاء كان عازف القانون الأستاذ مصطفى كامل الذي انتهت بعثته في عام 1953 لكنه لم يعد إلى مصر بل واصل عمله في الإذاعة السودانية حتى نهاية الخمسينات وعمل على تدريس النوتة الموسيقية لأعضاء الفرقة الموسيقية كما شارك بالعزف على القانون في معظم تسجيلات عقد الخمسينات في الإذاعة.
أما الشكل الرابع فقد تمثّل في الموسيقيين السودانيين الذين حضروا إلى مصر بغرض الدراسة، بدءاً بعازف الكمان السِر عبد الله الذي شارك في تسجيل عدد من أغنيات الحقيبة، ثم إسماعيل عبد المعين الذي سافر إلى مصر في العام 1939 وتخرّج في معهد فؤاد الأول في عام 1952، إلى جانب عدد من الدارسين من أبرزهم حمزة علاء الدين، وتواصل وفود الدارسين السودانيين فابتعثت الإذاعة السودانية كل من العاقب محمد حسن، وبرعي محمد دفع الله، وعبد اللطيف خضر ومحمد عبد الله محمدية في نهاية الستينات ودرسوا في معهد الموسيقى العربية.


في مطلع السبعينات حضر إلى مصر الجيلاني الواثق والتحق بالمعهد العالي للموسيقى (الكونسرفاتوار) وسجل أثناء دراسته في مصر عدداً كبيراً من الأغنيات للإذاعة والتلفزيون في مصر من أبرزها أغنية (نجمة العلالي) التي غنتها معه المطربة المصرية أميرة سالم، وهي من كلمات السِر قدور ولحن محمد الموجي.
في عام 1978 حضر علي عثمان الحاج والتحق بالكونسرفاتوار وتخرّج فيه وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراة وعمل بالتدريس فيه وفي معهد الموسيقى العربية، هذا إلى جانب قيامه بدورٍ مميز وهو إدارته لأوركسترا النور والأمل للفتيات الكفيفات منذ العام 2000 وحتى وفاته في 2017.
بعد ذلك ابتعث المعهد العالي للموسيقى والمسرح في الخرطوم عدداً من أعضاء هيئته التدريسية للدراسة بمصر في معهد الموسيقى العربية وفي الكونسرفاتوار، ومن أبرز هؤلاء الأستاذ يوسف الموصلي الذي حصل على درجة الماجستير في التأليف الموسيقي من الكونسرفاتوار عام 1989، وكان قد سجل عدداً من الأغنيات أثناء تواجده في فترة الدراسة منها أغنية (نِسر المجد) التي غنتها معه إيمان الطوخي وهي من ألحانه وكلمات الشاعر المصري فاروق الجوهري، عاد يوسف الموصلي إلى القاهرة في التسعينات ليعمل مديراً فنياً لشركة حصاد التي سجلت عدداً كبيراً من الألبومات الغنائية لمطربين سودانيين شارك في تنفيذ بعضها موسيقيين مصريين.
من أهم أشكال هذا التواصل كانت تجربة مشاركة مطربين سودانيين في بعض أفلام السينما المصرية، وقد كان أولها فيلم (ما تقولش لحد) الذي غنى فيه إسماعيل عبد المعين أغنيةً من ألحانه وشاركه في أدائها فريد الأطرش وكان ذلك في العام 1952، تلى ذلك فيلم (وهبتك حياتي) الذي غنى فيه أحمد المصطفى (رحماك يا ملاك) التي شاركته في أدائها المطربة اللبنانية صباح وكان ذلك في العام 1956، ثم فيلم (تمر حِنّة) الذي غنى فيه سيد خليفة أغنيته التي ذاعت وما زالت ترمز للغناء السوداني لدى الكثير من الإخوة العرب وهي أغنية (المامبو السوداني) وكان ذلك في العام 1957.
تلى ذلك فيلم (إسماعيل يسن طرزان) والذي غنى فيه إبراهيم عوض أغنية (اظهر وبان عليك الأمان) وهي من ألحان برعي محمد دفع الله وقد أصبح لحنها بعد ذلك لحناً لأغنية السودان من كلمات سيف الدسوقي التي تغنى بها إبراهيم عوض نفسه.
شارك المقال