الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• دروس وعبر عديدة يجب أن نخرج بها من هذه الحرب المصطنعة، بعد أن بانت جلية فيها الأطماع الخارجية، في مقدرات وثروات هذه البلاد الميسرة..

أول ما يجب أن نفعله أن نؤوب إلى الرشد والتفكير الحصيف والفهيم.

سنصبح دولة سفيهة لا تُحسن التصرف، فيأتي من يمسك بمقدراتها فيغيّر قرارها ولكنتها لحين بلوغنا سن الرشاد، عندما نكون أكثر إصراراً واستمراراً في تصدير ثرواتنا في شكلها الخام.

وسيأتي يوم لا ندري فيه أنبكي أسى.. أم نضحك بلاهةً،

فإعوال الحسرات سيبلغ منتهاه.. وستأبى المقل زخ استدماعها، وستمتم الألسن أنى لها، بعد فوات الأوان.

وحتى تتعاظم ندامتنا، دعونا نتأمل هنا حالة فنلندا، التي ينعم سكانها القليلون بأعداد هائلة من الأشجار. وقد يقول أحد خبراء الاقتصاد الكلاسيكيين، إن دولة كهذه لا بد أن تصدر الأخشاب، وهو ما قامت به فنلندا بالفعل. وعلى النقيض من هذا، قد يزعم خبراء التنمية التقليديون أنه لا ينبغي لها أن تصدر الأخشاب، بل يتعيّن عليها بدلاً من ذلك أن تضيف القيمة إلى الأخشاب بتحويلها إلى ورق أو أثاث، وهو ما قامت به فنلندا أيضاً. ولكن كل المنتجات المرتبطة بالأخشاب تمثل 20 في المائة فقط من صادرات فنلندا. والسبب هو أن الأخشاب فتحت مساراً مختلفاً وأكثر إثراءً للتنمية. فمع انهماك الفنلنديين في قطع الأخشاب، كانت معداتهم من فؤوس ومناشير تبلى وتتكسر، وكان لا بد من إصلاحها أو استبدالها. وقادهم ذلك في نهاية المطاف إلى إتقان صناعة وإنتاج المعدات والآلات التي تقطع الأخشاب وتنشرها. وسرعان ما أدرك رجال الأعمال الفنلنديون أنهم يستطيعون صناعة آلات تقطع مواد أخرى، لأنه ليس كل ما يمكن قطعه صُنِع من خشب. ثم برعوا في تشغيل معدات القطع آلياً، لأن قطع كل شيء باليد من الممكن أن يصبح مملاً. ومن هنا، انطلقوا إلى معدات آلية أخرى، لأن الحياة عامرة بأمور أخرى كثيرة غير القطع. ثم انتهى بهم الحال من المعدات الآلية إلى نوكيا. واليوم تشكل الآلات من مختلف الأنماط والأشكال أكثر من 40 في المائة من صادرات فنلندا من السلع.

المغزى من كل هذه القصة، هو أن إضافة القيمة إلى المواد الخام، يعد أحد مسارات التنويع. لا أن نهديها كالجهول فيستغفلنا الناس كما يحدث في بلدنا المأزوم بحكامه وشركاته.

ويلاحظ من قصص النجاحات الاقتصادية للدول، اختلاف النماذج الاقتصادية المتبعة، فليس علينا أن نسبق تشيلي في نظامها الاقتصادي، ولا نستطيع تقليد النموذج الصيني، أو الكوري الجنوبي أو حتى السنغافوري.

كما لا تستطيع دولة أن تكون مزاراً سياحياً صيفياً إن لم تملك الشواطئ أو الأجواء المناسبة.

والسبب في ذلك واضح، أن النموذج الاقتصادي مرتبط ارتباطاً وثيقاً؛ بخصائص الدولة، فلا يمكن لدولة أن تقلّد الصين في اكتساح الصناعة العالمية دون امتلاك الطاقة الاستيعابية، المتمثلة في حجم الدولة، وعدد السكان.

لكن في الجانب الآخر، يمكننا أن ندير إمكاناتنا بخصائصنا وثرواتنا التي حبانا الله بها، مع شيء من (الأمانة) و(الرشد) ليس إلا.

فلا يتطلب الأمر ثروات طبيعية ضخمة أو موقعاً جغرافياً مميزاً، بقدر ما يتطلب الإرادة، واستنباط نموذج اقتصادي هو الأصلح لظروف بلد ما، من أجل التحول من الفقر إلى الرفاهية.

وإذا كنّا راغبين في إصابة الثراء، فيتعيّن علينا أن نتوقف عن تصدير مواردنا في هيئتها الخام من الآن، وأن نركز على إضافة القيمة إليها. وإلا فإننا سنهدي بغباء نصيب الأسد من القيمة وكل الوظائف الجيدة.

وبوسعنا أن نحذو حذو جنوب إفريقيا وبوتسوانا اللتين تستخدمان ثرواتهما الطبيعية للتحول إلى التصنيع، عن طريق تقييد الصادرات من المعادن في هيئتها الخام، وهي السياسة المعروفة محلياً بـ (الإثراء).

ولنشير هنا إلى اللحوم على سبيل المثال لا الحصر، ولننظر إلى قيمة المواد الحيوانية الأخرى من جلود، وفرو، وغيرها، أضف إلى ذلك الوظائف الجيدة التي توفرها هذه القطاعات.

مما يعني في نهاية المطاف أننا لا نصدّر حيوانات حية، بل منظومة متكاملة من الصناعات والأنشطة المختلفة، التي نفقدها جراء هذا التصرف النَغِل.

أخيراً.. إذا كنت تريد أن تقضي على الفساد في مجتمع ما، حسب التجربة السنغافورية، فإن الطريقة الأكثر فعالية هي التأكد من عدم معاقبة الذين في القاع، بل عاقب الذين هم في قمة السلطة. وهذا يفسّر التحول الكبير في تلك الدولة، من بلد كان يرزح تحت الفقر، إلى بلد مزدهر، وتبلغ نسبة الفساد فيه صفراً كبيراً.. وذلك لأنهم آمنوا أن (العبرة) والأمثولة تأتي من القمة.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *