بعد إنجلاء غبار (اليوم الأسود ) الذي كنت قد قصصت عليكم أحداثه في العام الماضي .. أستقر بي المقام في منزل أخي الحبيب دكتور عثمان البدوي في القضارف الذي قضيت معه الربع الأخير من عام النكبة الأول (2023 ) مستمتعاً بكرم وحميمية أسرتيه الصغيرة والكبيرة . وكنا خلالها نقضي الساعات الطوال نتبادل الحكاوى .. هو يحكي عن ما فاتني من أحداث خلال الفترة الطويلة التي لم نلتقي فيها ، وأنا لا أحكى سوى عن أحداث شهور النكبة في أمدرمان .. كان عثمان دائماً يختم تعليقه بعد كل حكاية بكلمة واحدة يكررها عدة مرات ..هي : ( أكتب .. أكتب .. أكتب ) فلم أكتب سوى ( اليوم الأسود ) .. لم أكتب شيئاً لأنني واصلت النزوح مرة أخرى ..قادني الطريق بورتسودان عبر كسلا .. اعتقدت أن بورتسودان نهاية الطريق لكنه تمدد شمالاً حتي القاهرة ..
في القاهرة كنت أحاول الكتابة و أفشل حتى داهمتني ليلة عيد الأضحى.. كان ليلتها نومي متقطعاً تجاذبتني فيه الكثير من الهواجس وتقاطعت فيها أحداث أيام وليالي أعياد ما قبل النكبة مع أيام و ليالي ما بعد النكبة .. ثم تناوشتني أحداث النكبة فغضت مضجعي .. حينها تذكرت كلمة عثمان ( أكتب ) فقررت أن أعود مرة أخرى للكتابة أتعلل بها .. و هنا انتصب أمامي سؤال كبير ( ماذا أكتب ؟ ) و مر أمامي شريط لا نهاية له من أحداث النكبة و أنا أستمع للجوامع من حولي تردد ( الله أكبر ..الله أكبر …) بأصوات جماعية جميلة كأنها قد تدربت عليها الشهور الطوال .. كل هذا الكم من الجمال كان يقابله جبال من القبح تدور في رأسي من تذكرى لأحداث النكبة .. فاستقر في روعي أنني لو كتبت عنها حلت عني .. وهنا قررت أن أكتب وأن لا أبدأ الحكاية من أولها ، بل أن أكتب عن أحداث ما بعد ( اليوم الأسود) .. عن أيام آُخر أبحث فيها عن إجابة عن سؤال ظل يطاردني زمناً ( لماذا و كيف هجرت بيتي في أمدرمان ؟ ) و قبل أن أكتب حرفاً حاولت الاتصال على عثمان لأهنئه بالعيد ولأقول له إنني قررت الكتابة لكن الاتصالات استعصت كعادتها .
إن كان يوم الخروج (أو يوم الهجرة أو يوم النزوح أو يوم الهروب أو يوم … سمه ماشئت ) هو يوم واحد بل ساعات محدودة من اليوم الواحد ، وإن كان له ما بعده من أحداث جسام نتجت عنه ، فإن له ما قبله من أحداث مهدت له ..أحكيها لكم في حلقات تالية …