• في زمنٍ يَغشاه ضجيجُ المصالح وتُطوِّقه الأقنعة، يظلّ الوفاء جوهرةً نادرة، أشبه بنورٍ يبرق في عتمةٍ طويلة، أو ماءٍ عذبٍ يتدفّق في صحراء قاحلة. الوفاء ليس خُلُقًا عابرًا، بل هو سِمَةُ الأرواح النبيلة، وميزان القلوب الصافية، وعنوانُ الثبات على العهد مهما تبدّلت الظروف وتقلبت الأيام.
الأوفياءُ هم أولئك الذين يَسكنون ذاكرة القلب قبل أن يسكنوا مقاعد الحياة. لا تُغريهم مصالح، ولا تُغيّرهم مكاسب زائلة، يَعرفون كيف يَحفظون السرّ، ويَصونون الودّ، ويُجدّدون العهد إذا جفّ الحاضر أو خان المستقبل. هم الذين لا تَبهت صورتُهم في الغياب، ولا يُسقِطهم تعاقب السنين، بل يبقون حضورًا يتراءى في الضمير كلما عصفت بنا المحن.
ما أحوجنا اليوم إلى الأوفياء! في عالمٍ يميل إلى الاستهلاك حتى في العلاقات، ويستبدل الوجوه كما تُستبدل الأشياء، نفتقدُ تلك الأرواح التي تُقاوم النسيان، وتزرع الأمان في أرض القلق. إنّ الوفاء ليس ترفًا خُلُقيًا، بل هو عصبُ التوازن النفسي والاجتماعي؛ فبغيره تُصاب العلاقات بالهشاشة، ويغدو الإنسان مُعلّقًا بين خيانةٍ مُقنّعة ونفعيةٍ باردة.
الأوفياء يُعلّموننا أن الإنسان لا يُقاس بما يملك، بل بما يَمنح. يُثبتون أنّ الذاكرة ليست مجرد خزانة صور، بل عَهدٌ مستمر يَنمو بالصدق، ويتغذّى بالحب، ويُثمر طمأنينة وسكينة. إنّ وجودهم في حياتنا بمثابة مرساةٍ لسفينةٍ تتقاذفها أمواج الدنيا؛ بهم نستعيد الثقة، وبهم نتعلّم أنّ العلاقات الإنسانية ليست صفقات، بل رسالات من القلب إلى القلب.
ولعلّ أعظم ما يُميّز الأوفياء، أنهم لا يَطلبون شكرًا، ولا يُنادون بالثناء؛ يكفيهم أنّهم أدّوا أمانة الودّ، وصانوا حرمة العشرة، فكانوا كالظلال الرحيمة التي تُرافقنا دون أن ننتبه، حتى إذا غابت الشمس أدركنا كم كنّا نحتاج إليها.
حاجتنا إلى الوفاء اليوم ليست حاجةً وجدانيةً فحسب، بل هي ضرورة إنسانية كبرى. في ظلّ عالمٍ يتآكل تحت ضغط الماديات والتسارع، يبقى الأوفياء هم الضمانة الوحيدة لبقاء إنسانيتنا مُزدهرة، ولبقاء قلوبنا عامرة بالمعنى. فليت شعوبنا، ومجتمعاتنا، وأسرنا تُدرك أن الوفاء ليس فضيلة فردية وحسب، بل هو ركيزة لِبناء حياة أصدق وأجمل، حياةٍ تُزهر بالثقة وتُثمر بالأمان.
فالأوفياء، في نهاية المطاف، ليسوا مجرّد أشخاصٍ يَمُرّون في حياتنا؛ إنهم النبضُ الذي يجعل للحياة معنى، والسندُ الذي لا يُخلف، والنورُ الذي لا ينطفئ.