أيام في حضرة وردي (4)

22
wardi06
Picture of بقلم: د. أنس العاقب

بقلم: د. أنس العاقب

  اليوم الثانى. سينما الخرطوم جنوب 1960

• كان ذلك هو أول يوم أشاهد فيه الفنان محمد وردى فى حفل جماهيرى أقيم على مسرح سينما الخرطوم جنوب التى كانت معروفة بإقامة مثل هذه الحفلات الغنائية …. وكان فى خريف عام 1960 على ما أذكر….وأنا (إقليمي) قادم من كسلا حديث عهد بالعاصمه ومجتمعها الراقي المتحضر العجيب في كل شئ ..

 السينما كانت ممتلئة على آخرها أمها  جمهور ذواق ليس من بنهم شماسة أوعنقالة لأننا نحن أبناء الطبقة الوسطى من موظفين وعمال ومثقفين وطلبة الثانويات والجامعة وغيرهم من المواطنين العاديين كنا بمثامة الترمومتر لكل مناحى الحياة السياسية والإجتماعية والثقافية والفنية والإقتصادية ومن صلب هذه الطبقة الوسطى خرج هؤلاء الفنانون الذين جئنا سراعا لنستمتع  بغنائهم الجميل فى ذلك الزمان الجميل …. أحمد المصطفى ..عثمان حسين .. حسن عطيه .. سيد خليفه ..إبراهيم الكاشف .. عثمان الشفيع ..إبراهيم عوض ..ومع كل هؤلاء العمالقة صعد وردى وغنى وأجاد وصفقنا له بحرارة فقد كان ذلك الشاب النحيل فارع الطول نجم الحفل بالنسبة لى ولآخرين ومنذ ذلك الوقت وقر عندى أن ظهور إبراهيم عوض كان بداية لزلزة عروش سبقته وأما ظهور وردى بأسلوبه الغنائى الجديد فقد أفضى إلى إنحسار الأضواء عن قمم من قمم الغناء وانصرف غير قليل من  معجبيهم مع معجبين جدد لإبراهيم عوض ومحمد وردى ولتدور الأيام سراعا ويتقدم وردى على أنموذج إبراهيم عوض ويتربع على القمة لا ينافسه فيها أحد عقدا كاملا ثم تنازل عنه مختارا مهاجرا(مسافر فى بلاد الله) منذ قيام (حكم الإنقاذ) فى نهاية ثمانينات القرن الماضى مترحلا بين القاهرة وأسمرا وإديس أبابا وطرابلس وابوجا وصنعاء ليستقر به المهجر فى الولايات المتحده  سنوات عددا ولكن بعد ان دهمه المرض واستبد به الشوق للوطن يعود إليه وردى فى (حكم الإنقاذ) متوسدا حب وتقدير وأهله وعشيرته وملايين من محبى فنه وشخصه .

فى حفل سينما الخرطوم جنوب غنى الفنانون وطربنا لغنائهم وصفقنا بقدر حرارة التجاوب مع الفنان الواقف فى مواجهتنا  على مسرح تلك السينما  وما زلت أذكر سيد خليفه الذى تمكن من سحر الجماهير بأغنية (ليل وكأس وشفاه) للشاعر حسين عثمان منصور واتبعها باغنية (أنشودة الجن) للتيجانى يوسف بشير وعثمان الشفيع وذكريات ود القرشى ورسائل الكاشف ورائعة أحمد المصطفى (أيام زمان) وشاعرها حسين عثمان منصور ومع اننى إهتبلت فرصة وجودى فى العاصمه قررت ألا افوت هذه الفرصة  بصحبة أحد لأصدقاء لنستمتع بليلة طرب أصيل وأشاهد فيها فنانى المفضل أحمد المصطفى وأرى عن كثب كل أولئك النجوم الزواهر الذين كنا نحلم برؤيتهم بلحمهم وشحمهم أمامنا فقد كنا نرفعهم فوق مستوى الناس صغيرهم وكبيرهم بل كنا  فى نفس الوقت نقدر ونعجب بالموسيقيين من عازفين وملحنين ….   برعى محمد دفع الله / حسن خواض / عزالدين على حامد / عبدالله عربى /على ميرغنى / عبداللطيف خضر ود الحاوى/موسى محمد ابراهيم/ وكثيرون غيرهم كانوا نجوما لا تخطؤهم العيون والأسماع وفى دواخلى كنت أتطلع لرؤية وردى رأى العين وأستمع إليه يغنى أمامى فتلك كانت المرة الأولى التى أشاهده أمامى وكان ينتابنى إحساس خائب ظل يخرك فى دواخلى بعض ظلال من ردود فعل سماعى الأول لأغنية ( يا طير يا طاير) برغم أن وردى قد إتجه بعد ذلك يلحن أغانيه لنفسه فقد كنت ومعى صديق فى  كسلا قد استوقفتنا أغنية أول غرام ( ليالى اللقاء) كلمات الموسيقار على ميرغنى عليه الرحمه يقول مطلعها :

أول غـرام يـا أجمل هديه    

يا أنبل موده  يا نور عينيه

حبى ما هديـتـو  ولا   خلى اصطفيتـو

واجمل من عيونك فى الكون ما رأيتـو

لونك أبهى لون وكفاك العيون

آه للإبتسامه  كالنغـم  الحنـون

نظراتك لهيب  وتثير الشجون

ليـه  قـلبى  سليتـو  وبالآلام  رميـتـو

قـول  لىْ  يا  ظلوم إيه  ذنبى الجنـيتـو

هذا جزء من تلك القصيدة التى تفيض عذوبة ورومانسية اتسم نسيجها اللحنى بالبساطة والتنوع وإطلالات تجديدية أضفت على القالب الغنائى بعدا تراوح بين غناء وردى الهادئ الأسيان وبين أداء لأوركسترا الصغيرة التى شاركها العود منفردا وآلة القانون من وراء حجاب الآلات الأخرى وفى هذا اسياق بدا وردى أنه سيقتحم بلا تردد محاولة  التحول النغمى ونجح فى ذلك  فى الكوبليه  الرابع الأخير الذى مطلعه ( أنا ما زلت هايم) … 

أستطيع القول أن أغنية أول غرام هى الأغنية التى قدمت وردى الملحن الناجح وبها سيخطو منافسا ثم متجاوزا لا لموهبته فقط ولكن لأنها موهبة كما سبق وأشرت تنطلق من مخزون ثقافى حضارى قديم وموروث مع تراكم تجارب معاصره فى السودان الكبيربالإضافة لما كانت تقدمه الشقيقة مصر فى مرحلة ما بعد ثورة يوليو 1952 ثم جاء إنقلاب نوفمبر1958 مجهضا الديموقراطية الأولى . 

ومن حسنات ذلك النظام العسكرى أنه برغم قصر مدة حكمه (6 سنوات) عرف عنه إنفتاحه وإهتمامه العميق  بالرياضة والفنون والغناء  على وجه الخصوص  (إفتتاح المسرح القومى  وإنشاء التلفزيون وإقامة ستاد الخرطوم )… 

وردى إذن ينتمى لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية (1945/1949 ) ثم كان هو نتاج مرحلة الإستقلال الوطنى قصيرة العمر وتشاء القدار ان يجد وردى نفسه ضحية لكل تلك الإنقلابات العسكرية الأربعة ( 1958/ 1969/ 1971/ 1989 ) التى استولت على الحكم فى السودان حتى من تلك التى أيدها ثم انقلب عليها أو إنقلبت عليه ومن المفيد والمدهش إن كل نلك المحن والمواقف والإغتراب لم تحبط ذلك المبدع وردى بل زادته ثياتا وألقا وأثرت تجربته الغنائيه  وعمقت نظرته للحياة بواقعها السياسى والإجتماعى والفنى فتحولت عنده ألى فن غناء وطنى رسالى فى التنادى بالهتاف الثورى والتحدي الصاخب أحيانا  من كلمات للشاعر الوطن محجوب شريف رحمه الله وأحسن إليه :

حنتقدم ونتقدم 

ونرفع سد    ونهدم سد   

وإشتراكيه  لآخر حـد ..

أو مثلا …..        

وبيك يا مايو يا سيف الفدا المسلول /   نشق اعدانا عرض وطول

كما إتجه وردى أحيانا أخرى للشعر الرمزى الهادئ عميق المعانى التى تستجلى الحرية وتدعو لها بين مواءمة واندغام الحس العاطفى فى حب جارف للوطن المحبوب أوللمحبوبة الوطن  وللإنسان والإنسانية جمعاء فهو يغن لعمر الطيب الدوش

ولما تغيب عن الميعاد 

بفتش ليها فى التاريخ  واسأل عنها الأجـداد

واسأل عنها المستقبل اللسع سنينـو بعـاد 

وافتش ليها فى الأعياد محل الخاطر الما عـااد

وفى الأعياد وفى أحزان عيون الناس 

 وفى الضل الوقف ما زاد 

ثم بعيدا عن السياسة  وهموم الوطن ظل وردى يقدم عناءً هزجاً مشبوب العاطفة مستخدما كل أشكال التلوين اللحنى والغنائى بين حرارة الإيقاع وطلاقة الأداء الذى يضفيه وردى دائما على أغنياته الخفيفة السارحة مرحا وعتابا فى حديقة الكلمات الملونه وهذه التى نمنمها الشاعر إسحق الحلنقى :                

الحنينه  السُكره    ســمــحه  والله  ومـقدره

جينا  ليها  نذكرا   الحفله  لازم  تحـــضـــرا

نورت فى الحفله جـــات  

يلا غـنـن يـــا بنات

فى الفرح فى الأمسيات  

السعـاده اليله جـات 

دى الحلاه الماب نقدرا

يمكن القول أن الشاعر إسماعيل حسن كان بمثابة عراب وردى الذى إحتضنه وكتب له حوالى عشر أغنيات فى العقد الأ من ظهور وردى عام 1957 وعندما اعتلى خشبة مسرح سينما الخرطوم جنوب تمنيت لو أنه غنى ( اول غرام) ولكنه بدلا منها غنى (ذات الشامه) التى الهبت مشاعرنا وأحاسيسنا ونحن فى فورة شباب جياش بعواطف مشبوبة لا تهدأ  ولا تعرف النوم ومع طرب الغناء لإن أغنية ( ذات الشامه ) بكلماتها الجريئة المفعمة بلغة شاعرية جديدة  كانت فى الحقيقة : تنادى ، تستحلف ، تستجدى ، توصف ، تتغزل ، تتباهى ، تتحسس   

تقول كلاما ما كان ممكنا قوله إلا فى أغنية ذات الشامه . قلت لصديقى الذى جاء معى للحفل ( وردى يتغزل فى محبوباتنا عديل:  أنظر كيف يناديهن : وحياتك/ وحياتى عندك / وحياة حبك )  واصلت هذا الحديث بعد أن فرغ وردى من وصلته التى ختمها بأغنية (الليله يا سمرا) تلك التى أعجبتنى أكثر من أغنية (يا طير يا طاير) يوم ان قدمته الإذاعة لأول مرة قبل ثلاث سنوات قلت لصديقى مؤكدا : الحمد لله أن محبوبتى ما عندها شامه لكنه غازلها قائلا ( وحياة أجمل بسمه عرف معناها) ، (وحياة حبى إلليك من أول نظره ) ، ( وحياة أجمل صدفه عرفتك فيها ) نظر إلى  صديقى  بشئ من الإستغراب  والدهشه  وعلق قائلا ( يا اخى دا غُنا غُنا وكل زول يتجاوب على هواهو زى ما قال المثل ودا هو سحر الغنا لكن الظاهر وردى حرك فيك مشاعرك وأظنك ياخى مشتاق )  ضحكنا ولم أعلق ولكنى بحكم شغفى بالغناء تذكرت أن هناك غناء تسمعه يعجبك ولكنه لا يحرك فيك شئا وما أكثره هذه الأيام … غناء جميل لكنه مسطح ولكن وردى فهو يمتلكك عندما يغنى … يحتويك غناؤه يفتح مسامات الطرب الجمالى الذى يستحث ذائقتك على التأمل الملتاث  والتساؤل الشفيف … فلو أننا مثلا قمنا بتحليل كلمات أغنية ذات الشامه سنكتشف ان وردى حول التكرار وتشابه العبارات إلى ادوات للتعبير بصوته الفريد الذى يمتلك كاريزما طاغيه حتى لو ترنم بلا كلمات وهذه نعمة يهبها الله لمن يشاء ميزت وردى وتحدث بها للناس بأريحية متجدده ومتفرده … 

وإن شاء الله نلتقى فى يوم آخر من أيام لاتنسى مع وردى …رحمه الله  وأحسن إليه…


شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *