أيام في حضرة وردي (3)

24
wardi 03
Picture of بقلم: د. أنس العاقب

بقلم: د. أنس العاقب

  أول الأيام ….. 

• مدينة أروما صيف 1957

تلك كانت أمسية لا أنساها ما حييت  فقد كنت أقيم مؤقتا فى مدينة أروما مع أحد أقرباء أمى باشمهندس مشروع  القاش المرحوم  عبد العظيم حبيب الله الذى ساعدنى لأعمل كصبى نجار فى الإجازة المدرسية فى ورشة  مشروع القاش… 

تبعد مدينة أروما حوالى 60 كيلومترا إلى الشمال الغربى من مدينة كسلا عاصمة المديرية  وقد كانت أروما وقتذاك مركز إدارة مشروع القاش الذى كان يستزرع محصول القطن على  مساحات شاسعة من دلتا القاش المروية موسميا بفيضانات خور القاش المتحدر من الهضبة الأثيوبية فلا غرو ان أصاب مدينة أروما إنتعاش إقتصادى أفضى إلى حراك إجتماعى وثقافى ورياضى وفنى مقدر.

وأثناء عملى فى ورشة مشروع القاش فى صيف 1957 أتاح لى خالى الشاعر عبد القادر رضوان حضور بروفات الحفل الذى كان سيقام فى مدرسة أروما الأوليه للفنان عبد العزيز داوود  وفرقته  المكونه من عازفى الكمان  بدر التهامى  وحسن الخواض  وعازف  إيقاع  (لا استحضر اسمه) ربما  يكون هو  خميس  جوهر المشهور  بلقب ( خميس بونقز) أو خميس مقدم عارف الطبله  رحمهم الله وبهذا الحضور الذى لن أنساه وقفت لأول مرة على عالم الفنانين الحقيقى  وشهدت كيف تجرى عملية صنع الأغنية و التدريب عليها (وهى  صناعة الألحان عند العرب القدماء)

لست أذكر تاريخ اليوم بلضبط ولكنه كان أحد أيام يوليو من عام 1957 (وردى قال أنه كان يصادف يوم 19  يوليو)….وكنت  وقتذاك على مشارف السابعة عشرة صبى بدا يتكشف له عالم الغناء ويكشف له عن أسراره  وخباياه وهى خاصية تميزت بها عن كثير من أقرانى فى نهاية المرحلة الوسطى وإلى حد ما وفى المرحلة الثانوية فى بورتسودان الأميريه الحكوميه .

ظلت إذاعة أم درمان تنوه المستمعين معلنة تقديم صوت جديد بعد نشرة المساء  مباشرة  فى بادرة متقدمة جدا بمقاييس ذلك الزمان فلابد إذن أن إجتذب ذلك التنويه آلافا مثلى فى بقاع شتى من السودان وقد تناقل الناس ان المطرب الجديد الذى بدأ خطواته الأولى كمغنى شعبى (حلفاوى نوبى)  إحتضنه برنامج غنائى شهير يعنى بالغناء الشعبى السودانى يعرف بإسم (فى ربوع السودان ) وتم تحويله إلى فنان  ليغنى فى البرنامج العام بغناء المدينة  وقيل كلام كثير حول ملابسات هذا الترقى بأن مدير الإذاعة إتخذ هذا القرار بعدما تيقن من موهبة الفنان الجديد (بتاع الربوع)…..  هذه الواقعه أكدها وردى نفسه عندما قدمته فى محاضرة  تحدث  أمام  أساتذة  وطلاب  كلية الموسيقى والدراما  فى  مارس  من عام 2006  ).

ظللت أنتظر شمس ذلك اليوم ليتها تسرع بالمغيب ولكنها كانت تتباطا أو هكذا خيلت لى لهفة الإنتظار …وهو إنتظار لن يطول بالطبع فلابد للشمس من الغروب مؤذنة بشروق شمس يوم جديد لصوت جديد إسمه  محمد وردى الفنان القادم من أرض النوبه مهد الحضارات السودانية القديمة التى قدمت للإنسانية مشاعل أضاءت العالم القديم بالعلوم والفنون فماذا كان سيقدم محمد وردى فى أمسية من أماسى يوم فى صيف 1957 ؟  

إنتهت الأخبار أخيرا وجاء صوت المذيع يقدم الفنان الجديد .. لم انتبه لتقديم المذيع بل لم أعره إهتماما ، كنت فقط أنتظر فى لهفة سماع الصوت الجديد وربما كثيرون غيرى  فى مدن سودانية عديدة ربضوا ينتظرون مثلى (سماع) ذلك الصوت القادم من أقاصى الشمال وأعترف أننا لم نكن نعرف مطلقا فنانا (حلفاويا) آخر سوى محمد وردى ولا جاء ذكر خليل فرح على ألسنتنا …. وبعد لحظات من الصمت والإنتظار جاء صوت المطرب الجديد هادئا فى لحن هادئ بسيط لأغنية الحب والورود :

 يا طير يا طاير من بعيد فوق الغمام 

من ربـوعى أحمل الشوق يا حمام  

تابعت الأغنية بإنتباه شديد وتركيز حتى انتهت ثم أعقبها بأغنيية (الليله يا سمرا ) فانتعشت الذائقة والإستماع معا  للحن خفيف سريع وكورس (بناتى ) وبداية لظهور حقيقى لشخصبة صوت الوافد الجديد بحيوية براقه …

أغنية الحب والورود (ياطير ياطاير) التى كتبها الشاعر الفذ إسماعيل حسن رحمه الله ومع أن صوت وردى جذبنى إليه إلا أن لحن الأغنية لم يعجبنى ولا  أثارت  فى شيئا من الطرب  مقايسة بأغانى الكبار( أهواك) لأحمد المصطفى، (الفراش الحائر) لعثمان حسين , ( الملهمه) للتاج مصطفى ، ( رسائل) الكاشف ، ( فينوس) عبد العزيز محمد داوود ، (فيردلونا) لحسن عطيه (مرت الأيام) لعبد الدافع عثمان وغيرها…. وغيرها من أغنيات كثيرة لمطربين مثل إدريس إبراهيم وعثمان الشفيع وإبراهيم عوض وحسن سليمان وعبيد الطيب وعائشه الفلاتيه والعطبراوى وسيد خليفه وكل من سيقوا ذلك الفنان الواعد الجديد محمد وردى …. فزاد به المبدعون عددا  وإن كان صدى نجاح محمد وردى الفنان ( الحلفاوى) لا يقاس بدوى نجاح إبراهيم عوض الفنان (الذرى) ومع ذلك لم يكن أحد يتصور أن ذلك الفتى النحيل وردي الذى ترتسم على قسمات وجهه جدية واضحة وملامح شخصية راسخه مختلفة تماما عن الآخرين  من المقدر له أن يشق بها طريقا سريعا فى أقل من عامين تمكن بعدها من منافسة أهل القمة بكل ثقة ثم أخذ يصعد ويصعد نحوالقمة  يحتلها وقلوب الجماهير ثم لا يلبث يتقدم ليتحدى السلطة السياسية ويصادمها ويتحمل ما يحدث له  بلا خوف أو تردد

لا أدرى ولكن عن لى سؤال من بعد هل عندما لحن خليل أحمد أغنية يا طيريا طاير إستمع للفنان الشاب محمد وردى أم انه رحمه الله لحنها إستجابة لوساطة من الشاعر إسماعيل حسن وهو أحد الذين إهتموا جدا بوردى  وتقديمه للبرنامج العام  (وفى هذا السياق اكد لى الباحث الموسيقار أمير النور أن الأغنية كانت أصلا ملحنة لتغنيها المطربة منى الخير رحمها الله  فطلب إسماعيل حسن من الملحن خليل أحمد أن يمنحها لوردى ثم كتب كلمات أغنية الحمام الزاجل  لمنى الخير ولحنها خليل أحمد عوضا عن تلك وغنتها وسجلتها فى الإذاعة) ـ وأهو كلو طير  وحمام … الغريب أن أغنية الحمام الزاجل وجدت شهرة واسعة بين المستمعين وتغنى بها كثيرون على عكس أغنية وردى التى إستهل بها مشواره الفنى ولربما وردى نفسه قبل غناء اللحن وهو بعد مطرب ناشئ يشق طريقه وسط عمالقة الغناء رغم أنه كان يجيد ترديد أغنيات من سبقوه من المطربين وفى مقدمتهم الفنان إبراهيم عوض رحمه الله  . 

جاءت أغنية يا طير يا طاير بسيطة جدا فى قالبها اللحنى الثنائى الدائرى Binary Rondou  Form ولم تكن بها مقدمة موسيقية منفصله فجاءت المقدمة  محاكاة متطابقة للحن مطلع الأغنية :

يا طير يا طاير من بعيد فوق الغمام

من ربـوعى أحمل الشوق يـا حمام 

هل يمكن مقارنة هذا المطلع الشعرى بمطلع أغنية أهواك لأحمد المصطفى علما بأن المقدمة الموسيقية جاءت أيضا محاكاة للحن المطلع الغنائى كاملا بلاتوقف 15  كلمه :

يا غاير علىَّ وانا هايم فى دنيا هواك لو تسأل عينىَّ  تنبيك كم أقاسى معاك

فرق كبير بين شاعرية وبلاغة مطلع أغنية أهواك التى كتبها الشاعر صلاح أحمد محمد صالح وبين شاعرية مطلع أغنية (يا طير يا طاير) التى صاغها إسماعيل حسن أما لحن الأغنية  فلم يكن جاذبا بل لم يكشف لنا اللحن  معدن صوت وردى من ناحية المساحة والقدرة على الإنتقالات والتطريب والركوز المريح فى النغمات الغليظه فقد جاء صوت وردى محدودا فى مساحة  ضيقه إنحصرت فى طبقة وسيطة تغلب عليها الغلظة وبلا ملامح صوت كاريزميه حتى وهو  ينتقل للكوبليه الأول : 

إن  شـاء الله  تـمشى   ولىْ   تـعـود 

لى  حبيبى  تحمل  الحب   والورود

واحكى عنى وقول لو ياطير هل يعود   

من  فؤادى  بيهو ليك  أرسل  سلام 

ولو ان خليل أحمد قام برفع المقام اللحنى درجة  واحدة لأتاح لوردى أن يقدم لنا على الأقل لمحة من مساحة صوته الواسعة التى ترتاح فى المنطقة الصوتية العليا ويؤكد ما ذهبت إليه عندما مازحت وردى مرة وقد كنا  طلابا  فى  معهد  الموسيقى  والمسرح وقلت  له ( يا وردى معقول تكون إشتهرت بأغنية  «يا تير يا تاير» ضحك وقال أمام جمع من الطلاب ( أولا انا ما بنطق الطاء تاء أنا النوبى دا بنطق العربى أحسن منكم أنا عمرى ما نطقت القاف غين زيكم ) قلت له (برضك رطانى المهم الأغنية ما كانت مناسبه  ليك ) رد علىَّ ( طيب مالو خليل أحمد ملحن جيد وكتر خيرو وقف معاي هو وإسماعيل حسن … بعدين  صاحبك حمد الريح إشتهر بى أغنية (إنت كلك زينه) لحنها كلو واحد  بعدين أغنيه ياطير يا طاير»مركزا على نطق حرف الطاء بشكل مسرحى هازل» لحنها كان ساهل ومريح لفنان جديد فى الدرجة التالته بس أقول ليك أنا تانى ماغنيت الأغنية كتير) وتجدر الإشاره إلى أن حمد الريح الذى نجح جماهيريا بأغنية إنت كلك زينه كان أيضا زميلا لنا فى معهد الموسيقى ولوردى فى الدفعة الثانية التى التحقت بالمعهد عام 1970 ، وما قاله وردى صحيح بدليل ان وردى نفسه فى تقديرى نجح بالأغنية الثانية (ياسمرا)  التى كان يغنيها باللغة النوبيه ثم قام إسماعيل حسن بتعريبها شعرا  لتتماشى مع السياق اللحنى وقد قدمها  وردى بعد  أغنية يا طير يا طاير( الحب والورود) وهو يطل على المستمعين فى أمسية يوم من يوليو من عام 1957  والشاهد أن هذه الأغنية هى التى قدمت صوت وردى الحقيقى الذى جاء فى طبقة صوتية أعلى من الأغنية الأولى فوق ما تميزت به من حيوية إيقاعية وأداء لحنى تجاوبى بين وردى المغنى وكورس البنات ولاننسى أن إحساس وردى باللحن كان ينطلق متجانسا مع طبيعة وجدانه وحسه النوبى ذلك  لأن لحن الأغنية نابع من واقع شعبى أصيل فنجح بها تماما مثلما نجح حمد الريح بأغنية ( إنت كلك زينه ) وكلتا الأغنيتين كانتا بالنسبى لهما خطوة فى مشوار إبداعى ناجح وطويل تجاوز أربعة عقود وإن إختلفت أساليبهما وإضافاتهما ولكننى هنا فى هذا السياق أعود فأقول أن ساحة الغناء  كان يسيطر عليها  عظماء الجيل الأول : أحمد المصطفى / إبراهيم الكاشف / حسن عطيه / عثمان حسين / التاج مصطفى / عبدالعزيز محمد داوود / عبيد الطيب / سيد خليفه ثم صلاح محمد عيسى / محجوب عثمان / رمضان حسن / إبراهيم إدريس … ولكن من المؤكد أن مجئء إبراهيم عوض  إنفتح الباب الذى كان من قبل مواربا يصعب الولوج منه فدخل وردى ساحة الغناء عبر بوابة إذاعة أمدرمان ثم جاء  من بعده عبد الكريم الكابلى وزيدان إيراهيم  عام 1958وما أن أطل عقد الستينات إلا وقد أنفتحت الأبواب على مصاريعها لقادمين مبدعين جدد  الأمر الذى تميز فيه عقدا  الستينات والسبعينات بزخم إبداعى تسابق فيه الكبار والصغار بتقديم أجمل غناء على خشبة المسرح القومى وسجلته الإذاعة وبثه التلفزيون وكان وردى حاضرا حضورا مثيرا ومتميزا رحمه الله رحمة واسعة ورحم كل من رحلوا عنا وورد ذكرهم فى هذه المقالات .. آمين

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *