أيام في حضرة وردي (2)

23
wardi01
Picture of بقلم: د. أنس العاقب

بقلم: د. أنس العاقب

  كسلا … قبل اليوم الأول

• منذ ما وعيت الأشياء والناس من حولى وجدتنى مولعا بالغناء وبكل ما له علاقة به من مديح نبوى ورقص شعبى وحلقات الذكر إذ كانت مدينة كسلا فى خمسينات القرن الماضى زهرة مدائن السودان موقعا متميزا فى الشرق خضرة  غناء ومركزا جاذبا ليس فقط لكل سودانى قادم من بلاد بعيدة (النوبه ، الكارا ، الشايقيه ، الجعليين ، الدناقله ، المحس ، الرباطاب… و…و) أو مناطق  قريبة ( كالرشايده  ، الهدندوه ، والشكريه ، والحلنقه ، والبنى عامر و…و.) بل كادت كسلا أن تصير موطنا للفلاتا والهوسا القادمين من غرب إفريقيا وإلى إستيطان جالية الهنود التى أقامت لها مستوطنة مستقلة بها وكذا كانت كسلا تفتح ذراعيها من بلاد الأحباش واليونان والإيطال والإخوة اليمانية الذين كانوا يعملون بتجارة القطاعى (الكناتين) وتوزيع الماء  بالأخراج على السكان فى الأحياء القريبة من سوق كسلا.

كل هذه المجموعات كانت تعمل بالزراعة والتجارة وبعض الحرف الأخرى والخدمات وكانت فى مناسبات عديدة تؤدى فنونها المحلية غناء فرديا أوجماعيا مصاحبا بالرقص وغير قليل من تلك المجموعات السودانية والأجنبية ما كانت تستصحب المرأة فى تلك الفعاليات الجميلة الممتعه سوى قبيلة الرشايده وجالية الهنود وجالية الحبشه ( وبالمناسبة كانت هذه هى صفة سكان المنطقه قبل أن تستقل عنها دولة إريتريا )  بحسب ذاكرة طفل لم يتجاوز الخامسة بعد غنى له  المرحوم  سرور نهار أحد أيام الإحتفالات بالمولد النبوى الشريف ( وتلك قصة رويتها من قبل). 

كان والدى الشيخ العاقب حامد رحمه الله لا يفتأ يتلو القرآن فى هدأة الليل بصوت جميل أخاذ تغلب عليه نغمة حزينة شجية، وبالنهار كانت أمى رابحه بت رضوان رحمها الله تدندن دائما بغناء حفظته من التراث أو بغناء ألفته كلمات ولحنا فصار لها مجالس (ونسه) يومية مع صويحباتها من الجيران تستقبلهن أو يستقبلنها .كما كان لجار لنا راديو يفتحه منذ الصباح الباكر يوميا على برنامج إذاعة إم درمان الصباحى القصير وكنت أتسمع الأغانى التى يبثها الراديو وقليلا قليلا أصبحت أميز بين أصوات مطربى ذلك الزمان ثم توسعت التجربه وصارت شغفا وتنافسا بين أقران الحى وزملاء المدرسه وكنت وقتها من أشد المعجبين بالفنان أحمد المصطفى رحمه الله وغيرى كان يتباهى منافسا بالفنان عثمان حسين و الفنان إبراهيم الكاشف و حسن عطيه ثم إنضاف إليهم الفنان أبو داوود رحمهم الله ومع تعنصر هذه الذائقة كنت لا اخفى إعجابى بعدد آخر من الفنانين متجاوزا بذلك قوانين المنافسه الصارمة فكان من بين الذين أعجبت بهم الفنان التاج مصطفى والفنان عبدالدافع عثمان والفنان عثمان الشفيع .عليهم الرحمه… ثم فجأة فى مطلع الخمسينات انفجر صوت  المرحوم الفنان إبراهيم عوض يهز عروشا كثيره فجذب إليه كثيرا من المعجبين على حساب الكبار ولكنى برغم ذلك ظللت على ولائى معجبا لا يتزحزح بفنانى المفضل أحمد المصطفى أو ظننت ذلك إلى أن ظهر فنان لم نعهد مثله جذبنى إليه معجبا بالرغم منى وكان اسمه الكابلى (عبد الكريم  الكابلى) ولذلك حديث آخر نتحينه فى حينه .

إذن كان المناخ الذى عشته وانا بعد صبى صغير كما أسلفت يعج ويضج بنشاطات فنية وثقافية غاية فى الثراء والتنوع والجمال وأذكر جيدا سماعنا ثم شهودنا مطربين كسلاويين فى ذلك الزمان أذكر منهم حسن حسين الصومالى وقد شهدته فى إحدى المناسبات يعزف على العود بصورة مبهره وكان صوته جميلا جدا وأذكر أنه فى تلك المناسبة صاحب بالعزف الفنان الخرطومى حسن درار وما زلت أذكر أغنيته ( عيونو السود الكحيله عيون الحور ما مثيله) الذى جاء ملبيا المشاركه فى تلك المناسبة كما كان فى كسلا عدد آخر من الموسيقيين والمطربين  الرواد  من بينهم عبد الكريم ابو شاخوره وحسين ابو عجاج وحسن الزكر ومحمد الشاعر.

من المدهش جذا ان يجد طفل صغير إهتماما من كثير من أصدقاء والدى ذلك العالم الأزهرى إمام جامع كسلا وفقيهها الوحيد الذى كان يقيم دروسا مسائية فى صحن المسجد ولا أنكر أبدا تأثير ذلك الشيخ الكبير على إبنه الصغير  الذى كنته فقد أحاطنى برعاية خاصة إهتمام مشوب بعاطفة ما تزال تسرى فى عروقى محبة وطموحا فقد كنت مولوده الذى قدم على دنياه هو شيخ تجاوز الستين ربطته الأقدار صديق دراسة فى الأزهر الشريف (عبد الوهاب رضوان)  الذى زوجه شقيقته رابحه رضوان زوجة هى نفسها كاد ان يتجاوزها قطار الزواج منها نسل لهما خمسا توفيت المولودة البكر في مهدها وكنت انا اكبرهم وأوفرهم حظا بالمحبة والرضى والخوف والشفقة ولكم ان تتخيلوا طفلا فى الرابعة أو الخامسه تفتحت عيناه على أبوين وكأنه حفيدهما وكذلك أختىَّ عائشة ونائلة وأخى الأصغر مالك رحمه الله.  

أحفظنى والدي الشيخ العاقب  ولم أتعد الرابعه أجزاء (عم وتبارك وقد سمع) من القرآن الكريم بتلاوة مجوده وقصائد فى مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وقصائد صوفية من تراث السادة المراغنه وأشعار كثيرة ثم أننى لسبب لا أدريه فى صغرى كنت مولعا بالغناء وحفظت كل ما أسمعه ويسهل ترديده وكانت هذه الموهبة الباكرة قد أثارت إهتمام الكثيرين من أصدقاء وتلامذة الوالد الشيخ  والغريب أن والدى ذلك الرجل العلامه الفقيه المهاب الذى كانت تجله كل مدينة كسلا وتقدره لم يكن يبدى أى إعتراض حول هذا الأمر وأظنه إكتشف موهبتى تلك فكان يهتبل فرصة ذهابنا مبكرين لأداء صلاة الفجر ويبدا فى تحفيظى كثيرا من الأشعار أذكر منها متن الأجرومية وجوهرة إبراهيم اللقانى وابيات من الفية إبن مالك التى إستعصت علىَّ وما تزال. 

وفى مرة نادانى وداعبنى قائلا ( انت بتحب الغنا ان عملت لي مدحه سمحه ) أذكر منها مطلعها وبيتا واحدا وهما 

 بسمِ ربِّ  الــغـالبِ 

ارتــجى  لمطـــالـبى 

تـنـقـضى  ومــآربى    فى الزماـنِ الأقـربِ  

مطلبى حفظُ الجنانْ

الجـــوارح   واللســــانْ

أن  أكــونَ فى  أمـــــانْ     من هــــوىً  أو لــــعبِ 

و كنت فى الضحى أو بعد ما (يطلقونا) من المدرسة أهرب للسوق القريب من منزلنا الواقع فى زقاق الجعليين مضحيا أحيانا بالدافورى لأستمع للأسطونات فى مطعم عم (عطيه) الذى كان يبث غناء الفنان أحمد المصطفى والفنان عبدالعزيز داوود  فحفظت أغنية أهواك وكسرتها واغنية فينوس التى  يغنيها أبوداوود  وكسرتها وحتى  هذه اللحظة لم أجد سببا لماذا حفظت  الأغنيتين (الطويلتين) ولم  أهتم كثيرا بحفظ الكسرتين ولا  غيرهما من الكَسْرات ( وهى الأغنيات  الخفيفة الراقصة) ويبدو أننى أخترت هكذا عفوا لذائقتى الإهتمام بالأغنية الطويلة لما  تحمله من  موسيقى  متنوعه    وجمال  جذاب ليس موجودا  فى الأغنية الخفيفة السريعه بإيقاعات السامبا والرومبا والبايو  المعروفه وقتذاك..

 كانت هذه هى خلفية ذلك الصبى  وهو يكبر متعايشا مع حالات الطرب وتزايد شغفه بالغناء والمغنين السودانيين ثم بالمغنين المصريين بعد أن صارالصبية وأبناء الحى يرتادون خفية  دار سينما كسلا التى كان  يمتلكها  المواطن  (إسلام السيوفى)  رحمه الله  وأحسن إليه فقد منحتنا السينما فرصة الفرجة على دنيا جديدة وفن جديد من أفلام مصريه وأمريكيه ما كان لنا أن نشاهدها أونسمع بها … حتى جهاز الراديو كان بالنسبة لنا عالما ساحرا جميلا نتبارى فى التلصص لإستماع  أغانى الإذاعه فى (قهاوى) السوق وفى متجر العم محمد الحسن عطا رحمه الله والد صديقنا وزميلنا عطا  أوفى عصر كل جمعة فى نادى الموظفين الكبار  القريب جدا من بيوتناوكنا نجتهد فى حفظ الأغانى الجديدة وترديدها مكايدة لمن لا يحفظون أغانى مطربيهم المفضلين وكنت أحد القلة من حفاظ الغناء وكان زميلنا المرحوم عبادي حمد زعيم المعجبين المتعنصرين للفنان عثمان حسين وكما كان يتقدم دفعتنا فى السنة الأولى بمدرسة كسلا الأهليه الوسطى (الإبتدائيه) عام 1952  تلميذ موهوب فى الأناشيد ولاعب كرة قدم ممتاز ومشارك متمكن فى الجمعية الأدبية الأسبوعية وكانت مشاركاته غالبا ما تستأثر بالمشاركه الفائزه واسمه عبد العظيم عبدالله يوسف ثم صار بعد أن إستقر فى الخرطوم وأصبح   لاعبا  معروفا ومطربا مشهورا بلقب عبد العظيم حركه (رحمه الله). وأحسن إليه فقد كان (عظموت) عالما مختلفا عنا فى كل شئ نحن أولاد دفعته الأصغر منه عمرا وأقل خبرة فى كل شئ  فكان من واجب الزمالة  أن يكتب عنه الكثيرون من الأصدقاء والزملاء والكتاب فقد إنفرد بالعمل في مجال العلاج بالموسيقى … ظلمناه ولذنا بالصمت المعهود فينا  فليعيننى العمر للكتابة عنه إن شاء الله…

وإلى اليوم الأول الذى لاينسى مع الراحل وردى ….فى عددنا القادم .

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *