

بقلم : زين العابدين الحجّاز
• إن (أنشودة الجّن) و (أنشودة الأنشاد) عبارة عن مناجاة غرامية بين عروس وعريسها ولكنها ليست مناجاة كما نعرفها جميعاً فقبل أن نقرأهماعلينا أن ننظر إلى الكلمات بعين القلب وبوجدان العقل لنتجاوز معانيها السطحية الظاهرة إلى معانيها الرمزية المقصودة و التي لا يمكن إدراكها إلا إذا جهّزت المشاعر بشحنة من الحب الصوفي فالعروس هي الكنيسة وعريسها هو المسيح وعلى ضوء هذا التفسير فقط يمكننا أن نفتح كل أبواب الروح لنستوعب معانيها .
الرموز الدّالة في النص:
الجّن
الجّن من المسميات المرنة التي تنسحب على الرقائق اللطيفة غير المرئية و لغة يأتي من اشتقاق كلمة جنّ بمعنى استتر .الشاعر في هذه القصيدة استعار لفظة أنشودة الجّن من (أنشودة الأناشيد) التى كتبها سيدنا سليمان الذى سخر الله له الجّن و أيضا من (نشيد الجّن) حيث كان الجّن يلهمون قيس بالترنّم بالأشعار في و صف محبوبته ليلى في مسرحية (مجنون ليلى) التى كتبها الشاعر أحمد شوقي كمعادل موضوعي يقوي به الدلالة على رهافة الحس ولطافة المعنى المنشود داخل النص في حالته الغنائية.
قيس يخاطب الجنّي المسمى بالأموي منشدا :
ما أنت إلا صورة في عصبى مصوّره
أو عبث لو كان عقلي حاضراً لأنكره
ثم يخاطب نفسه :
ويحي أقيس واحد أم نحن قيسان هنا
وأيّنا الشاعر هذا الأموي أم أنا
أم الذي بي وبه من عبث السحر بنا
أم أنا المجنون عليّ حب ليلى قد جنى

فعل الأمر
إن استخدام فعل الأمر المتكرر يعكس حالة شعورية تلتزم بضرورة التغني و التغزل بالحب الإلهي عن طريق الإنشاد الهامس كحوار داخلي غير مرئى أو مسموع فقد تكرر فعل الأمر في (أنشودة الأنشاد) ثلاثين مرة و تكرر تسعة عشر مرة في (أنشودة الجّن) .
الغناء والموسيقى
لقد أثارت مسألة تحريم الغناء و الموسيقى جدلا شديدا بين رجال الدين الإسلامي وبطبيعة الحال يستند كل فريق الى تفسيرات متضاربة للنصوص القرآنية كذلك كان موقف الكنيسة التي تحرّم ألوان الموسيقى الا ما كان مرتبطا بالمراسيم الدينية ولو وضعنا موضوع فن الموسيقى والغناء في اطاره التاريخي لعرفنا أسباب ذلك التحامل . قد يحرّم و يستنكر الترنّم والسماع للموسيقى والغناء في جو غير محتشم و ليس في جو يكون السماع فيه متسما بالإحتشام وبالأنغام التي تعلو بالنفس الى الآفاق السامية وتنشد الأغاني اذا كانت نصوصها متضمنة مشاعر انسانية كريمة. الكنيسة تترنّم بسفر (أنشودة الأنشاد) خلال ذبيحة عيد الفصح .
الشاعر الرومانسي التيجاني يوسف بشير تخيّر قاموسه ولغته بعناية فتميّز في عصره وزمانه في وطنه المنسي فتأسف :
أنت قيثارة الجديد بك استظهر من في الوجود سر متاعه
أدب ملؤه الحياة و شعر مفعم بالسمو في أوضاعه
ضاع ويح الذي يغار عليه و ويح الأديب يوم ضياعه
القيثارة آلة موسيقية أوروبية تعادلها الربابة في المجتمعات العربية وتأتي القيثارة مذكراً ومؤنثاً في صياغاته الشعرية كذلك الرباب. وقد أشار التيجاني يوسف بشير الى الموسيقى و تحريمها عندما أنشد في (أنشودة الجن) :
و أعصر ليّ الأعناب و أملأ بها دنّي
من عبقري الرباب أو حرّم الفن
وعبقر هو موضع تزعم العرب أَنه موطن للجنّ ثم نسبوا اليه كل شيء تعجّبوا من حذقه أو جودَة صنعته. الفنان سيد خليفة في هذه الأغنية ينطق كلمة (حرّم) بفتح الراء بدلا من كسرها و تشديدها و ليس ذلك مستغربا فقد شابت ديوان (إشراقة ) أغلاط كثيرة في طباعته الأولى . في (نشيد الجّن) ذكر أحمد شوقي : في قرية من قرى الجن حيث اجتمعت طائفة منهم للحفاوة بقيس وهو يهيم على وجهه ضالا في الفلوات فأنشدوا :
الرقص يبعث الطرب هلمّ يا جنّ العرب
هلمّ رقصةَ اللهب إذا مشى على الحطب
ولقد وردت في (أنشودة الجّن ) أربعة عشر لفظة تشير الى الغناء و الموسيقى :غنّ – غنّ – أنشودة – الرباب – الفن – صح – إسترقص – الأعواد – رجعا – ترديدا – زرياب – معبد – كنار – الجرس.
الخمر
الخمر من الرموز التي عرفت انتشاراً كبيراً عند الشعوب القديمة كمصدر إلهي فهي رمز العبور بين عالمي المادة والروح بسبب حُميا سكرها التي يجعل الشارب يدخل في بعد مختلف عن الأبعاد الأخرى المألوفة في الوعي مع الإحساس بالتحرر والانطلاق والفرح وقد انتبه الصوفية إلى رمزية الخمر ووظفوها كثيراً للتعبير عن حالة الوجد التي تنتاب السالك عندما يبلغ منه العشق الإلهي مبلغاً يغيب فيه عن شعورالمحس بنفسه مثلما يغيب السكران عن كل ما يحيط به . أخيراً تبقى خمرية بن الفارض أجمل ما قيل في رمزية الخمر كتعبير عن معاني التحوّل والغياب والعشق والفناء في الذات الإلهية :
شربنا على ذكر الحبيب مدامة ** سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
في (أنشودة الأنشاد) وردت تسعة عشر كلمة تشير الى الخمر و الكرم و الكاس و السكر حيث يخاطب العريس (المسيح) عروسه (الكنيسة) :» قد دخلت جنتي يا أختي العروس قطفت مرّي مع طيبي أكلت شهدي مع عسلي شربت خمري مع لبني .. كلوا أيها الأصحاب .. أشربوا وأسكروا أيها الأحباء « .
و تخاطبه العروس
« أجذبني وراءك فنجري .. أدخلني الملك إلى حجاله نبتهج ونفرح بك .. نذكر حبك أكثر من الخمر .. بالحق يحبونك « .
(في أنشودة الجن) وردت خمس كلمات تشير الى الخمر : أعصر – الأعناب – دنّي – الشراب – الكأس . .. أعصر ليّ الأعناب و أملا بها دنّي … حتي يجّف الشراب من حافة الكأس .
الجمال
في (أنشودة الأنشاد) تتكرر كلمة الجمال وصفا بين العريس و عروسه دليلا على المحبة بينهما :
« ها أنت جميل يا حبيبي وحلو وسريرنا أخضر « .
«ها أنت جميلة يا حبيبتي ها أنت جميلة عيناك حمامتان « .
و في ( نشيد الجن) ذكر أحمد شوقي الجمال على لسان ورد زوج ليلى و هو يخاطب قيس :
فشِعرك يا قيس أصل البلاء لقيت به وبليلى الضلالا
كساها جمالا فعلّقتها فلما التقينا كساها جلالا
و في (أنشودة الجن) ذكر التيجاني الجمال أربع مرات : طرير – حلو – مستطاب – جمالك . . و قد أبدع في وصف الجمال في قصيدته (جمال وقلوب) : وحملناك يا جمال وصغنالك أنفاسنا هياما وحبا .
طرير الشباب في ( أنشودة الجّن) هي العروس العاشقة التي يستدعيها عريسها لكي تترنم ب (أنشودة الأنشاد) وتعصر له الاعناب وتسكبها خمرة حب و عرفان في دمه تتغني بها بمصاحبة العزف على آلة الربابة أو بدونها تمهيداً للتحرر من كثافة الجسد والانطلاق في حالة رقص مصاحب لهذا الفرح عبر البراري و الغابات وكل الحقب و المجتمعات لكي تسحر الغيد العذارى وهم المؤمنون الذين لم يبلغوا بعد درجة العهد الإلهي و تشجعهم لكي يتقدموا في طريق الخلاص وتتغنى بالأنشودة لكي تطغي بهاء على غناء زرياب و معبد أساطين الغناء عند العرب قديما ثمّ تطوف بها على الشعراء في مهرجان المربد وتغشى الطيور المغرّدة الساكنة في الغابات وتحدّث الأعراب الذين هم أشد كفرا عسى أن يؤمنوا تأثرا بروعة مشهد ذلك الكرنفال الذي يرقص على موسيقى وغناء (أنشودة الأنشاد).
مشهد أخير
تقول العروس في (أنشودة الأنشاد) :
« أنا نائمة و قلبي مستيقظ صوت حبيبي قارعا .. افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي لأن رأسي امتلأ من الطل و قصصي من ندى الليل«
« قمت لأفتح لحبيبي و يداي تقطران مرّا و أصابعي مرّ قاطر على مقبض القفل«
ويقول لها العريس في (أنشودة الجن):
صوّر على الأعصاب وأرسم على حسي
جمالك الهيّاب من روعة الجرس
وأستدن بابا باب وأقعد على نفسي
حتى يجف الشراب في حافة الكأس
و أخيرا يستدعي العريس عروسه أن تصوّرعلي أعصابه و ترسم على حسّه جمالها الذى يعظّم و يقدّس جمال تلك الأصوات الهامسة بأنغام الأنشودة و يطلب منها أن تدنو من كل الأبواب التي يقف خلفها وتفتحها ليدخل و ترتمي في أحضانه ليتم الفرح وتكتمل الرؤيا المنشودة في ليلة عرسهما الأبدي المقدس.
شارك المقال