
بقلم/ مصطفى الزايد
• لا ريب في أن أمريكا ليست ذلك الحمل الوديع، ولا هي بالصديق الذي لا يخون، وكذلك فإنها لن تُقدِّم مصلحة العرب على مصلحة الإسرائليين، ولا حتى مصلحة أمريكا، فهي على رغم كل ديمقراطيتها ذراع اليهود؛ تعمل بإمرتهم ولا تعصيهم.
وترامب، الذي كان يتكلم بكل وقاحة في دورته الرئاسية الماضية، جاء اليوم يتكلم بلهجة الصديق المخلص العطوف الحريص على مصلحة العرب وسلامتهم ومستقبلهم، متخلياً عن وقاحته، لابساً جلد الثعلب، فمدحنا وأثنى علينا وعلى ديننا، إنما يفعل ذلك ليتسلل إلى عقولنا من خلال العاطفة؛ إذ سنرى ذلك كرماً عظيماً منه فترتخي أعصابنا…
لقد أطال الحديث عن قوة جيش أمريكا وقوة اقتصادها، وأنه لا يحب استخدام هذا الجيش، لكن إذا دعت الضرورة فسيفعل، وهذا تهديد خفي ليس للعرب وحدهم. كما أشار أكثر من مرة إلى «البيت الإبراهيمي»، ودعا السعودية إلى الانضمام إليه ،وقال لولي العهد: أنا متأكد أنك ستفعل، والمسألة مسألة وقت! ولا ريب أنه يقصد العرب كلهم وليس السعودية وحدها، لأن السعودية اليوم هي الفاعل الأكبر في المنطقة العربية كلها، بل يمكن القول إنها رأس العرب، والبيت الإبراهيمي يعني التنازل عن كل شيء لمصلحة الإسرائليين وضمان أمنهم. كما جرّم ترامب «حماس»، وفصل بينها وبين أهل غزة، فقال: حماس إرهابية، وأهل غزة يستحقون حياة أفضل! وهذه «نصيحة» أخرى، والمعروف في السياسة أن نصيحة القوي تهديد، نصيحة موجهة إلى أهل غزة كي يتخلوا عن حماس، وتمهيد لتسديد ضربة قوية إلى حماس.
أما موضوع العقوبات على سورية فهو شأن آخر، لأنه ليس حقاً لأمريكا ولا لغيرها، ولكنه تسلط القوي على الضعيف، ونحن فرحنا برفع العقوبات لأن فيها مصلحة لنا في هذه الظروف، ولا نملك القوة التي تمكننا من رفعها على رغم أمريكا، ولا أن نقول لأمريكا التي تألهت بقوتها العسكرية: لا يحق لك وضع عقوبات على أحد، ومن أنت كي تتحكمي بمصالح الأمم ومقدراتهم؟ هذا مستحيل على العرب مجتمعين أن يقولوه لأمريكا.
قال القذافي يوماً في خطاب: طز بأمريكا ،وفي اليوم التالي كانت الطائرات الأمريكية تقصف قصره الرئاسي!
والعراق ما زالت جراحه تنزف، لا لشيء، سوى أنه رفض تسليم بريطانيا الجاسوس البريطاني الذي يعمل لمصلحة إيران، وأعدمه.
وأفغانستان شُنت عليها حرب أحرقت الأخضر واليابس لأنها أزالت صنماً!
هكذا تجري الأمور على الضعفاء في لغة الأقوياء.
ترامب منح القدس للإسرائيليين بقرار فردي، متجاوزاً قرار الأمم المتحدة الذي وقعت عليه أمريكا من قبل، ولم تستطع الأردن ولا حكومة عباس أن تعلقا على هذا الكرم الترامبي الذي يعطي أرضهم لعدوهم علناً وهو يضحك! ولا كل العرب استطاعوا مواجهته بالحقيقة؛ بأي حق تفعل؟ من خولك ذلك؟ ولا العرب مجتمعين يستطيعون حمله على التراجع والاعتذار!
نحن نعلم أن وراء اللين الترامبي اليوم خشونة الغدر بمجرد رفض عروضه المقبلة، وعلى رأسها التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، وقد أعطى أولاً، فرفع العقوبات، ثم ستأتي الطلبات، والتكشير عن أنيابه ينتظر كلمة «لا» ليفتح سجل الرئيس (الجولاني)، ويشن على سورية حرباً كحرب العراق، بعد إعادة العقوبات، وحصار اقتصادي دولي ينهك سورية أكثر مما هي فيه، وتحريك قذارات النصيرية والأكراد والدروز للمطالبة بتدخل دولي لتخليصهم، ليكون احتلالها أسهل من بلع ملعقة لبن.
نحن – السوريين – اليوم أمام امتحان صعب، بل ابتلاء شديد، فالرئيس (الجولاني) وجبهة تحرير الشام وجميع كتاب الجيش الحر ملفهم مُعدٌّ في الدُّرج، موسوم بطابع الإرهاب، ولا يحتاج الأمر إلى أكثر من إخراجه من الدرج ووضعه على الطاولة لشن حرب عالمية على سورية يشارك فيها حتى بعض العرب، (الجزائر ومصر مثلاً)، ليعود المكوعون، الذين كانوا يقولون في أول الثورة «كنا عايشين»، فيترحموا على أيام ابن أنيسة، ويتمنوا من كل قلوبهم أن يسلم الرئيس نفسه مع قادة الثورة والجيش الحر لمحكمة أمريكية تعدمهم في صبيحة العيد!
التهم جاهزة عند الأمريكان، والخطط، والخطط البديلة معدة سلفاً، وهي ستكون ورقة الضغط على سورية لتبيع نفسها عليهم بلا ثمن سوى «أن نكون عايشين» نأكل ونتمتع كما تتمتع الأنعام، وهم يتولون إدارة سياستنا واقتصادنا وتعليمنا وأعراف مجتمعنا وفكر مساجدنا، لغتهم أوامر ونواهٍ: افعل… لا تفعل…
هذا الامتحان الابتلاء يحتاج منا إلى التصرف بما يناسب واقع الضعف الذي نحياه، في مواجهة القوة التي يمتلكونها، نحتاج إلى دهاء عند الحكومة لمداراة العدو في الوقت الراهن، والتنازل في الزعانف، والتمسك بالثوابت، بأسلوب سياسي حكيم ومرن، كما كان من النبي صلى الله عليه وسلم، يوم الأحزاب، حين أراد أن يعطي بعض القبائل جزءاً من ثمار المدينة في مقابل انسحابهم، لكن الأنصار أبوا واختاروا المواجهة. فتعطيهم الحكومة امتيازات لشركاتهم في مجال استخراج النفط وإعادة الإعمار، وإنشاء الطرق والجسور والمطارات والموانئ، مع ضمانات قصيرة الأمد تجاه الإسرائليين، ليُنظَر بعدها في شأن العلاقات معهم؛ هل ستكون عداوة أم صداقة، وهذا الشيء يحدده سلوك الإسرائليين تجاهنا خلال مدة الضمانات (عشر سنوات مثلاً)، فإن التزموا عدم القيام بأي عدوان أو تحريض مجموعات على الشغب والخروج على الحكومة، خلال المدة، يمكن بعدها التفاوض معهم في شأن السلام والتطبيع بشرط يكون في إطار عربي يكون الجانب الفلسطيني بكل أطرافه أهم أركانه، ولا توضع شروط مسبقة لنمط المفاوضات ولا بنود محددة، وإنما تترك لوقتها بحسب الظروف آنذاك.
هذا دور الحكومة، أما دور الشعب فيكون أولاً في عدم الاستماع إلى المرجفين والمغرضين الذين تحركهم أطماعهم الشخصية أو جهات خارجية، مثل إيران أو غيرها، للخروج على الحكومة وتقويض البيت السوري من داخله، وثانياً في صب الجهود في مجال البناء والتقدم في العلم والعمل والإعداد للمراحل المقبلة، والأهم بذل الجهد في مساندة الحكومة لتستعيد سورية عافيتها وتقوى شوكتها ، ثم لكل حادث حديث.
شارك المقال