

بقلم : زين العابدين الحجّاز
• في فترة الحكم الثنائي كان الضابط الانجليزي برامبل مفتشا لمدينة أم درمان من بداية العشرينات وحتى أواسط الثلاثينات و قد اشتهر بالصرامة والنظام فقام بتقسيم سوق أم درمان حسب التخصصات .. لحوم .. خضروات.. دجاج و حمام .. أسماك .. تمور .. بهارات .. صياغة .. أدوات منزلية… مصنوعات نسائية.. حدادة .. عناقريب .. خياطة و هكذا . كان برامبل يحرص على تفقّد تلك الأسواق خاصة أماكن بيع اللحوم و ذلك في الزنك المخصّص لها ويعاقب على الفور كل من يخالف الأنظمة الصحية المقرّرة وقد قام بتخصيص محل لغسيل و كوي المرايل و الفوط للجزارين عرف بدكان آدم المكوجي غرب الزنك مباشرة والمفتش كان قد خاض معارك عديدة مع «لوبي» الجزارين القوي آنذاك . الزنك كان يغسل بالماء والصابون يوميا وكانت هنالك عربة مخصّصة لنقل اللحوم من السلخانة وكان الجزّار يلبس مريلة بيضاء واللحم يغطى أمامه بفوطة بيضاء وهنالك مفتش للصحة يحرص على تطبيق اللوائح الصحية في ذلك المكان . .كان للجزارين رئيس أو شيخ و نذكر من شيوخهم أبوزيد جد الرائد مامون عوض أبوزيد و ود نقد و عمر أبوزيد سليمان والفاتح شمّينا .

كان غالبية الجزارين أقوياء و ضخام في أجسامهم و عرف عنهم الشجاعة و الكرم نذكر منهم فتح الله محمد عثمان و بابكر الكلس و الريح ود أم زميم وعلي عليليبة و ديك ديوك و حامد حسن الطيب و محجوب حمد و سعد أحمد طه و محمد أحمد هباش و الشيخ محمد علي و المغيرة حمد و محجوب شانشّي و متوكل أحمد البشير لاعب فريق الهلال و الفريق القومي ومحي الدين الحمري لاعب المريخ و إبراهيم سعيد والهادي دوّاش وأولاد درميس وعبدالعزيز الجقر ويوسف الفادني وعلي ادريس و عبد الوهاب سلمان و عثمان كايرو و المطربين أحمد حسن جمعة و محمد أحمد عوض و طيب الأسماء أبّشر عضو الحزب الاتحادي و من مؤسسي جماعة أنصار السنة و العم أزرق الذي كان ينادي بتأسيس حزب تقدّم السودان داعيا الي عودة الحكم الانجليزي الى البلاد لأن السودانيين سيخرّبون البلاد اذا ترك لهم الأمر حسب زعمه وعندما زارت ملكة بريطانيا السودان كان من المدعويين في السفارة البريطانية .
الى جانب الرجال كانت هناك أربع نساء (جزّارات) من سكان أم درمان الأصليين ، ولدن بها في أخريات القرن قبل الماضي ، وكن من النساء الإستثنائيات حقا والمكافحات وقمن بتربية أجيال من مهنة الجزارة . منهن ستنا بت أحمد القاضي والدة مصطفى وعبدالله ناجي وعائشة والدة محمد الرخا وإسلم وبت الدقاقة . كن يشغلن الجزء الغربي لزنك اللحم في جزء صغير مفصول لهنّ ، يلبسن سراويل وعراريق طويلة وغطاء للرأس وكنّ يمارسن مهنتهن بترخيص رسمي . في الجانب الآخر من الزنك كان هناك جزّارون متخصصون فقط في بيع أحشاء الذبائح من أكباد وكلاوي و قلوب و فشفاف وطحال و مصران و معدة (عفشة) اشتهر منهم الوسيلة العكّام و الأخوان إبراهيم و حبيب الله الكتّم . كان الجزّار علي عليليبة حاد الطبع كسكّينه الحادّة التي قتل بها رجلا وحكم عليه بالسجن فقضى المدّة وخرج من السجن وهو أكثر شراسة. عندما اقترب منه كلب في الجزارة ضربه علي رأسه بالساطور ثمّ واصل تكسير اللحم لكن بعض النسوة صرخن مستنكرات ما فعله ,و قالن له ان الكلب نجس حينها هجم عليهن شاهرا ساطوره فهربن فزعات .أمام الزنك كان هنالك بعض الصبية يبيعون الطايوق علي طاولات صغيرة والطايوق يستعمل في عواسة الكسرة بمسحه على الدوكة بقطعة قماش تعرف بالمعراكة و ذلك قبل صب العجين و بسطه بالقرقريبة لكي لا تلتصق طرقة الكسرة بالدوكة آو الصاج.

كانت جميع اللحوم في أم درمان تباع في هذا المكان ثم انتشرت لاحقا محلات لبيع اللحوم في سوق الشجرة و السوق الجديد بودنوباوي و غيرها . في أواخر الخمسينات ظهرت لأول مرّة في أم درمان أربع محلات جزارة خارج الزنك فكانت جزارة إبراهيم سعيد في شارع العدني و جزارة عبدالرحيم محمد عثمان جنوب شرق المحطة الوسطى جوار قهوة شديد و جزارة الخواجة جورج فلاريس و شريكه التيجاني القاضي في الركن الشمالي الشرقي من شارع الارسالية مقابل سينما برامبل بحي البوستة و التي كانت عبارة عن منتدى أدبي يؤمه الكثيرون من الشخصيات الأمدرمانية منهم أحمد حسن هريدي و عبدالرحمن أبو حسبو و التيجاني عامر و أحمد إبراهيم الطاش و محمد عثمان الجزلي و جعفر و سرالختم الخليفة وعلي بك حسني . الجزارة الرابعة كانت لمحجوب حمد في حي البوستة جوار جزارة فلاريس من الناحية الجنوبية تحت مسمى الجزارة الحديثة .
ولد محجوب حمد عام 1929 في حي البوستة شمال ولم يتلق تعليما نظاميا وامتهن الجزارة في زنك أم درمان منذ الصغر أسوة بخاله طيب الأسماء أبّشر و أخيه الأكبر المغيرة حمد . في العام 54 بينما كان يجلس مع شقيقه مختار حمد لاعب الهلال في الأربعينات في مقهى جورج مشرقي وقعت مشادّة بين مختار و أحد الزبائن فتدخّل محجوب لمناصرة أخيه ودفع بالزبون الذي ارتطم رأسه بعمود برندة المقهى ولقى مصرعه .
حكم عليه بالسجن عامين بتهمة القتل غير المتعمد و نقل الى سجن أبقوتة وهناك التقى بالأمدرماني عبدالرحمن الوسيلة عضو الحزب الشيوعي و صادقه و تعلّم منه القراءة و الكتابة ومبادئ الشيوعية . أطلق سراحه و عمل مراقبا في سلخانة أم درمان متنقلا على عجلته ماركة رالي و أصبح عضوا في الحزب الشيوعي . ظهرت ميوله التجارية فافتتح جزارة حديثة في الموقع المشار اليه و أصبح قائما عليها مستخدما لأول مرة في أم درمان ثلاجات خاصة لعرض لحم الضان و السجك الذي كان الأمدرمانيون يشترونه فقط من جزارة الخواجة فلاريس و امرأة قبطية في حي المسالمة و قبطية أخرى كانت تسكن في المنزل المواجه للركن الشمالي الغربي من حوش الخليفة . في الاجازة المدرسية كنت مع أبناء أخوالي نقوم بالمساعدة في تجهيز السجك و اللحمة المفرومة في الجزء الخلفي من الجزارة .
تميزّت تلك الجزارة بالنظافة و التعامل الراقي مع الزبائن و أغلبهم من الشخصيات اللامعة في المجتمع الأمدرماني أذكر منهم آل بابكر بدري والمذيعون عمر عثمان و متوكل كمال و عفاف صفوت و الكابتن نصرالدين جكسا و الفنان عبدالعزيز محمد داؤود وهو يوزع نكاته الفورية بين الزبائن الواقفين في انتظار دورهم وعندما يتعذّر حضوره الى الجزارة كنت أقوم مع تاكسي العم ود جودة بتوصيل القفّة المحمّلة بالطيبات من اللحوم الى منزله في ديوم بحري . أصبحت الجزارة منتدى يقصده الأصدقاء في المساء منهم المحامي عبدالحليم الطاهر و الأديب علي المك وجاره الوزير حسن عوض الله و وزملائه في الحزب الشيوعي محجوب عثمان وأحمد سليمان و عبدالخالق محجوب وحسن الطاهر زروق الذى كان ذات مرة مطلوبا القبض عليه في فترة حكم عبود فخبأه محجوب حمد في الجزء العلوي من الجزارة حتى انفرجت الأزمة. انتعشت أحوال الخال محجوب الاقتصادية و أهداني عجلته الرالي و اشترى له سيارة هيلمان وأعقبها بسيارة ماركة أوبيل و اشترى منزلا في الثورة الحارة العاشرة و آخر في الحارة السادسة حيث تزوّج من شقيقة زوجة صديقه الوزير أحمد السيد حمد و استقرّ هناك .
في أعقاب حركة يوليو 71 التصحيحية تمّ اعتقاله في سجن كوبر مع آخرين ثم أفرج عنه وبعدها عانى كثيرا من المرض وانتقل الى رحاب الله الواسعة في بداية عام 73 . أشرف على محل الجزارة الحديثة من بعده شقيقه المغيرة حمد ثمّ من بعده شقيقه مصطفى حمد الباشمفتش سابقا بمشروع الجزيرة و حارس مرمى المريخ و الهلال في الخمسينات. والدتي هي الأخت الكبرى من جهة الأم لصاحب الجزارة الحديثة بحي البوستة و التي أصبحت الآن صعيدا جرزا. رحمهم الله جميعا.
شارك الموضوع