أفريقيا الموحّدة: الحلم الذي لم يكتمل

35
فيصل محمد فضل المولى1

أ. د. فيصل فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل

• لطالما كانت أفريقيا قارة غنية بالتنوع، متجذّرة في التاريخ، ومفعمة بالأمل. من محيطها إلى محيطها، ومن صحاريها الشاسعة إلى غاباتها الكثيفة، تحتضن القارة تنوّعًا ثقافيًا، وكنوزًا طبيعية، وطموحات بشرية لا حدود لها. منذ آلاف السنين، كانت أفريقيا مهد الحضارات، ومصدرًا للمعرفة والروحانيات، ومركزًا للتجارة والحراك الثقافي. واليوم، تتطلع شعوبها إلى استعادة هذا الدور، والانطلاق في مسار تنموي عادل ومستقل.

لكنّ هذا التنوع ظلّ لقرون سيفًا ذا حدّين، إذ تحوّل أحيانًا إلى أداة للانقسام بدلًا من أن يكون مصدرًا للقوة. فبدلًا من أن تشكّل الاختلافات الجغرافية واللغوية والثقافية عناصر إثراء، أصبحت في كثير من الأحيان نقاط صراع وتنازع. وفي عالم تتسارع فيه وتيرة العولمة وتتعاظم التحديات المشتركة، يبدو أن الحاجة إلى مشروع أفريقي وحدوي لم تعد ترفًا فكريًا، بل أصبحت ضرورة استراتيجية للبقاء والتقدم.

واليوم، وبينما تزداد الحاجة إلى قارة موحدة لمواجهة الأزمات، يُصدم المرء حين يرى كيف عجزت أفريقيا عن حماية نفسها من جراحها، كما هو الحال في الحرب الدائرة في السودان منذ أبريل 2023.

أفريقيا ليست فقيرة.. بل مُجزّأة

منذ نهاية الاستعمار، ورغم نيل معظم دول القارة استقلالها السياسي، فإن الانقسام ظلّ سمة بارزة في المشهد الأفريقي. الحدود المصطنعة التي رسمها المستعمرون لم تُراعِ الهويات والثقافات، وأسفرت عن صراعات عطّلت التنمية لعقود. كما ساهمت السياسات الاقتصادية الدولية، والمنافسات الجيوسياسية، في استمرار التبعية وضعف التكامل.

لكن الحقيقة الجلية هي أن أفريقيا ليست قارة فقيرة أو عاجزة، بل قارة مُجزّأة. تمتلك أفريقيا أكثر من 60% من الأراضي الصالحة للزراعة غير المستغلة في العالم، وتضمّ أغنى مصادر المعادن والموارد الطبيعية. كما أن شبابها، الذين يشكلون أكثر من 60% من السكان، يُمثلون قوة هائلة للتغيير والابتكار. في الواقع، ما ينقص القارة ليس الموارد، بل الإرادة السياسية والتكامل الفعّال.

الاتحاد الأفريقي.. الآمال والخذلان

أنشئ الاتحاد الأفريقي عام 2002 ليكون إطارًا جامعًا للدول الأعضاء في القارة، ويُعدّ تطورًا مهمًا من منظمة الوحدة الأفريقية السابقة. ومع أنه لا يزال يطرح مبادرات مهمة، فإن قدرته على التأثير في النزاعات الكبرى تظل محدودة.

والمثال الأوضح على هذا الفشل هو الحرب في السودان. فمنذ اندلاعها في أبريل 2023، لم يتمكن الاتحاد الأفريقي، ولا الإيغاد، من طرح مبادرة حقيقية فعّالة لوقف القتال أو حماية المدنيين. بل إن بعض الدول الأفريقية دعمت أطرافًا في النزاع بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ما زاد من تعقيد الأزمة، وضرب مفهوم «أفريقيا الموحدة» في الصميم. في لحظة تاريخية كان يُنتظر فيها موقف أخلاقي موحّد، عمّ الصمت، أو ساد الانقسام.

هذا الصمت يُفسّر الكثير عن أزمة المشروع الوحدوي الأفريقي، إذ أن الاتحاد يفقد مصداقيته متى ما عجز عن حماية أبناء القارة، أو لم يستطع منع الانتهاكات الجسيمة التي تُرتكب بحق المدنيين. كما أن غياب الشفافية، وضعف آليات المحاسبة، جعل من الاتحاد مؤسسة بيروقراطية عاجزة عن فرض إرادتها السياسية أو الأخلاقية.

الوحدة الثقافية والشتات: إمكانيات غير مستثمرة

رغم التعدد اللغوي والعرقي، هناك الكثير مما يجمع الشعوب الأفريقية: من القيم المجتمعية التي تحتفي بالتكافل، إلى التراث المشترك في الفنون والموسيقى. تعزيز اللغة السواحيلية، مثلًا، كلغة عمل أفريقية موحّدة هو خطوة نحو تجاوز الإرث الاستعماري اللغوي. كما أن دعم الإنتاج الثقافي المشترك يمكن أن يُعزز الشعور بالانتماء إلى قارة واحدة.

ولا يمكن إغفال دور الشتات الأفريقي، الذي يشكل جسرًا ثقافيًا واقتصاديًا مع بقية العالم. المهاجرون والمغتربون يمكن أن يلعبوا دورًا محوريًا في نقل الخبرات وبناء التحالفات لدعم قضايا القارة، مثل أزمة السودان، لكنّ دورهم لا يزال ضعيف التنظيم والتأثير. من الضروري التفكير في آليات لإشراك الشتات في صناعة القرار القاري، وبناء هياكل تُمكّنهم من دعم مسارات العدالة والسلام والتنمية في بلدانهم الأصلية.

الوحدة كضرورة وجودية لا خيار مثالي

التحديات التي تواجه القارة من تغير المناخ، إلى الأوبئة، إلى النزاعات تُظهر أن لا دولة أفريقية قادرة على مواجهتها منفردة. فقط من خلال الوحدة يمكن التفاوض ككتلة واحدة مع المؤسسات الدولية، وبناء نظم صحية موحدة، وتحقيق الأمن الغذائي، والاستفادة من الثورة الرقمية.

لكن الواقع، كما في السودان، يُظهر أن التضامن الأفريقي هش، وأن الأنظمة الحاكمة كثيرًا ما تُقدّم مصالحها الضيّقة على حساب وحدة المصير. وهنا تتبدّى الحاجة لإعادة تعريف «أفريقيا الموحّدة»، ليس كمشروع حكومي فوقي، بل كحركة شعبية تقودها المجتمعات المدنية، والشباب، والشتات.

الشباب.. وقود التغيير المنتظر

شباب أفريقيا هم الأقدر على قلب المعادلة. إنهم الأكثر تعليمًا واتصالًا بالعالم، والأكثر وعيًا بتراث القارة وإمكاناتها. يجب أن يكونوا في صدارة المشروع الوحدوي، من خلال التعليم، والإعلام، والمبادرات الشبابية العابرة للحدود.

في السودان، يقود الشباب حاليًا مبادرات الإغاثة، والتوثيق، والدعوة للسلام، في وقت غاب فيه السياسيون عن مشهد الإنقاذ. هذا يؤكد أن مستقبل الوحدة الأفريقية لن يصنعه القادة، بل الشعوب. على الشباب أن يتحولوا من ضحايا للانقسام إلى بناة لوحدة جديدة، تُبنى من رحم الألم والمقاومة.

الحلم المؤجل

أفريقيا الموحدة ليست حلمًا مستحيلًا، لكنها تواجه اختبارًا قاسيًا اليوم في السودان. فإذا لم تتمكن القارة من إنهاء حرب في قلبها، وحماية شعب من الإبادة والتهجير، فإن كل حديث عن الوحدة سيبقى ناقصًا، بل ومخادعًا.

حرب السودان يجب أن تكون جرس إنذار لإفريقيا: إما أن تتوحّد الآن على أسس أخلاقية وشعبية، أو تواجه مصير التمزق والانكشاف أمام أطماع الخارج.

إن اللحظة التي نعيشها الآن قد تكون نقطة الانطلاق أو نقطة الانكسار. إفريقيا الموحّدة يجب أن تنهض من فشلها، وأن تتعلّم من مآسيها، وأن تتبنّى مشروعًا وحدويًا جديدًا نابعًا من القاعدة، تقوده إرادة الشعوب لا حسابات النخب.

نعم، أفريقيا الموحّدة ستُغيّر العالم، لكن فقط عندما تنجح أولًا في إنقاذ ذاتها من نفسها. وعندها فقط، يمكن أن يُعاد كتابة التاريخ من قلب القارة، بأقلام أبنائها، وبأحلام شعوبها، نحو مستقبل يستحقونه.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *