أدب الأنداية في الثقافة السودانية

36
عوض الكريم فضل المولى

عوض الكريم فضل المولى

كاتب صحفي

• لمن لم يعش هذه الحقبة من الحياة السودانية. والتي ما زال كثير من الأقاليم والمناطق متمسكة بها بأشكال مختلفة عن الماضي. 

هذه الفترة كانت واحدة من ماضي السودانيين الذي حفل بالذكريات. 

وشكلت حضارة ما زمنية مقبولة بين الناس، ولا يستنكرها أحد، ولا يتأفف منها حتى رجال الدين. 

بل تصالح معها بعضهم، حتى كانت تمارس طقوسها في مقارهم ولهم منها نصيب. وقد ذكرت في أدبياتهم الشعرية صراحاً. 

ويرمز لها في المقامات الروحانية. 

مثلت الأنداية فضاءً اجتماعياً وثقافياً سودانياً عريقاً، ارتبط في حقبة زمنية معينة بثقافة مكان المشروبات التقليدية، وعلى رأسها المريسة، باعتبارها مشروباً سودانياً – إفريقياً خالصاً. 

فقد عُرفت المريسة منذ القدم في المجتمع السوداني، بينما كانت صناعة الخمور المُقطَّرة وافدة من الشرق مع دخول العرب إلى السودان، مما يبرز فرادة المريسة بوصفها جزءاً أصيلاً من الهوية المحلية.

المريسة… مشروب المجتمع وتعدد أسمائها

للمريسة مسميات عديدة في الثقافة السودانية، تختلف باختلاف المناطق والطبقات الاجتماعية. 

فهي تُعرف باسم: المريسة، البقنية، أم تف، الحسوة، البقو، بل وحتى أم كسرة، في بعض البيوت العسلية. كما تتنوع تبعاً للمواد التي تُصنع منها، مثل الأرزونة والقام زوت، وغيرها.

وتنقسم المريسة إلى أصناف من حيث الجودة مثل الدقّة، فضلاً عن ارتباطها الوثيق بالمناسبات الاجتماعية والطقوس العرفية، ومنها:

مريسة النفير: عند التكاتف الجماعي في أعمال الزراعة والبناء.

مريسة الطهور: ترافق طقوس الختان.

مريسة العرس: جزء من الاحتفاء بالمناسبات السعيدة.

بل وظهرت أنواع خاصة تُقدَّم لفئات بعينها مثل مريسة المشايخ أو مريسة النساء والأطفال، وهو ما يعكس مرونتها في التكيف مع خصوصيات المجتمع.

الأنداية… برلمان شعبي وأدب شفاهي

لم تكن الأنداية مجرد مكان للشراب أو اللهو، بل تحولت إلى مؤسسة اجتماعية وثقافية لها حضورها العميق. فهي فضاء يلتقي فيه الناس بمختلف طبقاتهم، لتبادل الشعر والقصص والحكايات، وذكر المناقب والسير الشعبية. بهذا، أصبحت الأنداية منبراً للثقافة الشفاهية، ومخزناً لذاكرة المجتمع.

إدارة الأنداية وتنظيم الندماء 

كانت الأنداية تُدار عبر شيخة الأنداية، وهي امرأة ذات مكانة وهيبة واحترام، لها الكلمة المسموعة بين الرواد. ذكرها مؤرخون سودانيون مثل الطيب محمد الطيب، وعون الشريف قاسم، والطيب صالح، وعبد العزيز بركة ساكن. وتُحكى قصص عن التزام العاملات فيها بالقيم السودانية الأصيلة، حتى قيل إن إحداهن عوقبت لمجرد ضحكة عالية قالت لها شيخة الإنداية: «يا بت، دي إنداية ولا محل سفاهة؟» في إشارة إلى الوقار المطلوب.

أما الرواد، فيعرفون بـالندماء، وكانوا يشكلون مجموعات منتظمة لها زمانها ومكانها، ويترأسها العقيد أو رئيس القعدة. ولكل فرد دور في إثراء النقاش أو إنشاد الشعر والدوبيت، أو المساهمة بالقصص والمرويات.

علاقتها بالسلطات

رغم نظرة الريبة أحياناً من السلطات المحلية أو الدينية، فإن الأنداية اكتسبت شرعية اجتماعية، باعتبارها مكاناً لتصريف الطاقات وتبادل الأفكار. بعض الحكومات أخضعتها للرقابة والتنظيم، بل خصصت لها عمال صحة وشرطة، لكن تأثيرها ظل ممتداً، لأنها لبّت حاجة المجتمع للتلاقي والترويح.

الأنداية كمدرسة للقيم

الأنداية لم تكن مكاناً للشرب فقط، بل أسست لعلاقات اجتماعية متينة، وغرست قيماً مثل:

الكرم: حتى شاع بين السودانيين مثل كرم ندماء الكأس.

التكافل: مشاركة الشراب والمناسبات.

الاعتراف بالمواهب: إبراز الشعراء والحكّائين.

الانفتاح الاجتماعي: جمعت مختلف الأعراق والطبقات.

التربية غير الرسمية: من خلال القصص والحِكم والعبر.

أثرها على المجتمع

لقد لعبت الأنداية دوراً محورياً في حفظ التراث الشعبي وتوثيق الذاكرة الجمعية، وكانت مجالاً للحوار المفتوح وتبادل الرأي، حتى وُصفت بـ»البرلمان الشعبي غير الرسمي». ورغم ارتباطها بالمريسة، فقد شكّلت مساحة لبناء شبكات اجتماعية متينة، وترسيخ مفاهيم التضامن والتعايش.

الأنداية والمقاهي الأدبية في العالم العربي

كما لعبت مقاهي القاهرة وبغداد ودمشق دوراً فكرياً وثقافياً، لعبت الإنداية السودانية الدور نفسه بخصوصيتها المحلية. غير أن الفرق الجوهري أن الإنداية ارتبطت أكثر بالطبقات الشعبية، بينما كانت المقاهي الأدبية العربية حكراً على النخب. 

وهذا ما منح الإنداية طابعاً ديمقراطياً فريداً، إذ جمعت الفلاح والعامل والشاعر والمغني في فضاء واحد، يتبادلون فيه الهموم والأفكار والقصص، بل وأحياناً القرارات المجتمعية.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *