«أحزان البنات».. نقاء التجربة العاطفية وكبرياء الأنثى في ديوان حكمت يس
Admin 1 نوفمبر، 2025 55
عزالدين ميرغني
• الشاعرة حكمت يس تعتبر من أوائل الشاعرات السودانيات والتي تغني بأشعارهن العديد من المغنين السودانيين . قبلها كانت الشاعرة لا يذكر اسمها مع ذكر الملحن والمغنى , مثل أغنية ( طيبة الأخلاق ) , والتي يغنيها الراحل عثمان حسين . وقد كسرت حاجز التخفي والتقية في مخاطبة الحبيب . في ثمانينات القرن الماضي . هي والشاعرة السودانية المشهورة ( سمرقندية ) . وكلاهما يكتبان الشعر بالعامية الفصحى . وعنوان الديوان ( أحزان البنات ) , فيه دلالة قوية على محاولة أن يكون الخطاب الشعري للشاعرة حكمت يس , أعلى صوتاً وأكثر تنبيهاً لقضية المرأة السودانية المحبة والصادقة في عاطفتها والتي لا تخجل من البوح بها . وتوصيلها للآخر . وقد قدمت لديوانها شعراً وليس نثراً . وقد قررت أن تقدمه بنفسها دون تزكية من الرجل . فاسم الديوان هو اسم قصيدة أول قصيدة فيه , والتي تقول فيها :
ديواني أحزان البنات
فيه الكتير عن البنات
ال أمها أبت العريس
واصفاه بي أقبح صفات
والضاقت المر والشقا
من خطيب خلاها فات

فقد عبرت الشاعرة حكمت يس عن هموم جيلها كله , في زمن الكتابة ولا يزال الديوان يعبر عن أحزان البنات الآن , طالما أن الوضع الاجتماعي للمرأة لا يزال في مكانه . رغم أن الشاعرة قد تخلصت من لغة أغاني البنات ( أغاني التمتم ) , ( لغة سجمي ووب علي ) , ولكنها حاولت أن تكتب بلغة الأنثى المتعلمة والتي تحمل بوعي قضية المرأة العاطفية وتعبر بها عن أحزان البنات جميعهن . ولعل استخدامها لكلمة ( البنات ) , أبلغ وأكثر عمقاً , وانكساراً , من استخدامها لكلمة ( النساء ) . فكلمة البنات أقرب للوجدان الشعبي السوداني , والتي تعني الابنة والأخت الصغرى وتعني الفتاة التي ما تزال تنتظر الزواج . ورغم جرأة الخطاب العاطفي في هذا الديوان والذي كان ظهوره في الثمانينات يعتبر مغامرة فيها التحدي للسلطة الذكورية والتي ما كانت تسمح للمرأة أن تعبر عن حبها وعاطفتها بتلك الجرأة . رغم ذلك فقد كانت ( الأنا ) , عندها خجولة وحذرة . والتاء المربوطة عندها غائبة . فتقول صافي الضمير , وعايش الحياة , وكنت عايز أجني الثمر , بدلاً عن : ( صافية الضمير , وعايشة الحياة , وكنت عايزة أجني الثمر ) .وهو ما يسمى ( الكتابة بضمير المذكر ) ,والتي يطلق عليها النقد الفرنسي ( الكتابة النسائية المذكرة ) l’écriture féministe masculin ورغم ذلك فقد فتحت الباب واسعاً ليكون الخطاب الشعري أكثر جرأة . والشاعرة ( حكمت يس ) , ليست خائفة وحذرة من المجتمع حولها , وهي خائفة من الحبيب نفسه لأنه جزء من المجتمع الذكوري المهيمن , تقول في قصيدة ( سؤال ) : –
وأنا في صمتي بختار الحروف
مرات أقول دون المقام
مرات أخاف ساعة الخصام
في صمتي ألوان من حديث
ما بتشبه الاتقال زمان
ولا حتى فيها شبه بعيد
دا لون جديد اخترتو ليك
بس كيف ابوح ليك يا حبيب
ومنك بخاف وبخاف عليك
والخوف في ديوانها طاغ , وله رمزيته الواضحة , فهي خائفة من صراحة الخطاب عندها , وخائفة من هذا البوح العاطفي رغم صدقه ونقائه , وقد أصبح نغمة مكررة في أغلب قصائد الديوان . فتقول في قصيدة ( داير أصارحك ) :
بي عواطفي داير أصارحك
إلا خايفك تبقى ما زيي في عواطفك
وتنجرح فيني المشاعر
وأحزن أكتر يوم أصادفك
وتقول له في قصيدة ( ما بقصر ) , ( ما بقصر \ إلا خايف في هواك \ أتعمق أكثر \ وبكرة تبقى على حكاية \ . ) . فالحكاية هي المعادل الموضوعي للإشاعة في المجتمع , فالخوف هنا من المجتمع . فالشاعرة خائفة أيضا على كبريائها وجرح مشاعرها ( وتنجرح فيني المشاعر ) . ولعل شعرها يكشف ذاتها وطيبتها , فتحس بذلك في براءة القول في أشعارها : فتقول في قصيدة ( أنا ) :
أنا ما بشر
بهوى الحياة وبهوى البشر
زول الله ساي
ما حبت للأيام خبر
صافي الضمير ما شلت
في أعماقي شر
عايش الحياة بكل وفا
وكنت عايز أجني الثمر
ومن هنا نستطيع أن نحس بمدى القلق الذي عاشته الشاعرة , وهي تحاول أن تكتب عاطفتها شعراً , وتحاول أن تبوح بها وتحفظ كبريائها ثم تبعد نفسها من حكايات الآخرين . وفي هذا تقول الدكتورة نوال السعداوي : هذا القلق لا يحدث للإنسان إلا إذا أصبح واعياً بوجوده , وان هذا الوجود يمكن ان يتحطم , وانه يفقد نفسه ويصبح لا شيء ) . وفي ذلك تقول الشاعرة ( حكمت يس ) : ( كل حب أنا عشتو قبلك \ النهاية بقت ندامة \ الدموع صبحت صديقة \ والعيون جافت منامها \ . ) . لعل الشعر عند هذه الشاعرة هو ضرورة نفسية , مرتبط بالقلق الذي وضح في شعرها , وهو مرتبط بالحرية التي يجب أن يتيحها المجتمع لها لتعبر عن عواطفها مثل الرجل , وكما يقول الناقد السعودي عبد الله الغذامي عن هذه الحرية : في كتابه عن ( المرأة واللغة ) : ( وكل مزيد من الحرية , هو زيادة في القلق, وخروج المرأة من مقصورة الحكي وحصانة الليل الساتر إلي نهار اللغة الساطع , جاء خروجاً يجمع بين حرية مكتسبة وبين ما لهذه الحرية من نتائج محتومة . ) .
لقد كانت مهمة اللغة في هذا الديوان سهلة وليست صعبة معقدة , وقد كتبت سيرة الحب الصادق , ولذا جاء الديوان متماسكاً في معانيه ومضامينه . وفي ندائه الواحد , وهو نداء الأنثى الخالد لنصفها الآخر . ورغم أنها استلفت من الرجل ضميره المذكر الخاص , ولكنها قد حاولت تأنيث لغتها ,وهو ما يطلق عليه ( الكتابة النسائية المؤنثة ) ( l’écriture féministe féminine) في تشبيهاتها وفي تداعيها العفوي الخاص . فهي تكثر من كلمات الانكسار الأنثوية ( يا حليلي , وانت كسرت خاطري , ويا سيدي بغلبني الكلام , دي الحلا القلت منامي , مرات تكون دايب وداد , وشفّق ناس كتير حالي ) . لقد خاطبت الشاعرة المذكر حتى في الطبيعة , فكان الليل هو المعادل الموضوعي عندها للوحدة والحيرة , والقصيدة التي عبرت جيداً عن ذلك هي قصيدة ( أسمعني يا ليل ) ,
يا ليل إمتد
وأبقالي صديق
أنا جرحي عميق
في عيوني عذاب
في قلبي حريق
أسمعني يا ليل
وأبقالي صديق
ولعل أجمل قصائد هذا الديوان , هي قصيدة ( خليتك أنا ) , والتي أصبحت من أشهر الأغنيات الشعبية في زمانها ولا تزال , وعنوانها فيه تحدى كبير للرجل والذي كان يعتقد بان التخلي عن الطرف الآخر المؤنث هو بيده وحده . وبهذه القصيدة تكون قد انتصرت للمحبة ذات الكبرياء القوية ( صدقني ما بقدر أعيد \ قصة غرام بالشوق مضت \ رحلة عذاب دابها انتهت \ كيف تاني ترجع من جديد \ ) . وهي قصيدة ساردة لقصة حب فيها قمة الوفاء والصدق , ولكنها انتهت وهي تحفظ لصاحبتها كبريائها . ( من بدري خليتك انا \ ونسيتها عشرة كم سنة \ ما انت ضيعت المنى \ كل السعادة العندنا \ وكتبت لريدنا الفنا \ بقت النهاية المحزنة . ) .
لقد كان الديوان رغم بساطة لغته , محملاً بالصدق العاطفي , والكبرياء الأنثوي , وهو يعتبر نقطة تحول في زمن كتابته في الثمانينات , من المحمول الشعري النسائي الشفهي ( أغاني البنات ) , إلي المحمول الشعري النسائي المكتوب , وهو يعبر عن قصة حب صادقة مضت وانتهت ولكنها دخلت التاريخ الشعري النسائي الحديث.
شارك المقال
